لكن تحليل الأفلام يعمق التفكير في الواقع، وفي البنية النفسية والعقلية التي يمضي بها، من يصطفون وراء هراوات القمع الجبارة. وفي هذا المنحى وعبر تحليل فيلم "مطر حمص" (2017) للمخرج جود سعيد، والذي لا تُخفى نزعته الطائفية في تحليل الحدث السوري، فإن الباحث يرى أن "الصورة الأوسع من حكاية الفيلم تبرئ النظام بالكامل من المآل المدمر للمدينة والناس، وتختصر المعارضة والثورة في كونها مليشيات مسلحة أو جماعات إرهابية أدوات للخراب. ومع كون الفيلم منتجاً تحت يافطة النظام، الممثل في وزارة الثقافة ومؤسسة السينما، فمن الصعب التعامل معه خارج سياق الدعاية والبروباغندا، مثلما كانت أفلام ليني ريڤنستال في عصر هتلر تماماً".
وقد فعل المخرج نجدت أنزور الأمر ذاته، في فيلمه "رد القضاء" حين "رسم... قوات الجيش السوري على أنها الأكثر براءة من خلال مشاهد الفيلم التي امتلأت بالسيارات المفخخة من قبل "الإرهابيين" (...) ولم يأت بدوره على ذكر أي انتهاكات من التي طاولت المدنيين في مدينة حلب وريفها"!
النتائج التي يخرج بها البحث عن واقع السينما السورية، خلال فترة حكم النظام المستمرة حتى اليوم، لا تأتي بجديد فعلي، لكنها ومن خلال الربط مع المقدمات، توضح كيف أن واقع حال صناعة الأفلام بذاته متأزم ومختل، ومن دون أن يتم التعاطي معه نقدياً من وجهات نظر "معادية"، ولا يمكن أن ينتج قيماً فنية مختلفة، فهو بمرتبط بشكل كامل بالأجهزة الأمنية التي تدير كل شيء في البلاد عبر واجهات كوزارة الثقافة ومؤسسة السينما وغيرها. وهذا التأكيد الذي يقدمه غيث حمور، لمن يبتغي معرفة واقع حال السينما السورية، مهم جداً، كونه يشتغل على الموضوع من خلال معيارية فكرية، لا يمكن للمدافعين عن النظام اعتبارها غير محايدة، فهي تحلّل نماذج التسلّط من خلال دوافعها وتكويناتها، بمعزل عمن يلبس وجوهها.
الشهادات التي يوردها الباحث لشخصيات قام بالاستماع لها، لن تخرج عن السياق، بل ستروي تفاصيل واقعية، عما جرى ويجري على الأرض. غير أن ما كان يستحق أن يولى مساحة إضافية في البحث، هي العلاقة بين السياسة والفن في سوريا، في المراحل السابقة لوصول "البعث" إلى السلطة، وأيضاً فترة الستينيات التي مر عليها بسرعة رغم أهميتها في قراءة خلفية الموضوع، لا سيما الفترة الممتدة بين العامين 1963، أي العام الذي صدر فيه القرار بإنشاء المؤسسة العامة للسينما، و1970، حينما استولى الأسد الأب على مقاليد الحكم، وبدأ بعدها بعملية تطهير لكافة المؤسسات، أبعد من خلالها أصحاب وجهات النظر المخالفة لتوجهاته، حتى في أقل مناحي الإدارة.
غير أن هذا لا يلغي أهمية طرح دراسة الواقع الجزئي، أو تعريض قطعة من المشهد للتحليل الدقيق أكاديمياً، خصوصاً أن هذا الحقل الأكاديمي، بقي كثيراً مادة راهنة لدى الدارسين الغربيين، ولم يتحول إلى مادة علمية بحثية رائجة بين السوريين أنفسهم.
(*) ثقافة الهيمنة في ظل الأنظمة الشمولية السينما السورية بعد 2011 نموذجاً
طبعة أولى- 2023، دار نون4 حلب- غازي عينتاب.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها