الثلاثاء 2023/03/07

آخر تحديث: 13:50 (بيروت)

"مجدرة حمرا".. مفردات خاصّة لصوغ جملة عامّة

الثلاثاء 2023/03/07
"مجدرة حمرا".. مفردات خاصّة لصوغ جملة عامّة
أنجو ريحان في "مجدرة حمرا"
increase حجم الخط decrease
يحيى جابر يَضرُب من جديد! يستخدم عشقه للمسرح باحتراف. ويطوّع مسرحه لينتقد المفاهيم التي تسبّب تعطيل بناء مفهوم "دولة". وقد يكون الوصول إلى هذا، صعب المنال. فالدولة كمصطلح، ظهرت في العمل المسرحي للمخرج يحيى جابر من خلال الإضاءة على مكوّن من مكوّنات الهويّة اللبنانية وهذا الجزء وَرَدَ في سياق العمل، كأنّه يهدّد الآخر، وهو مكوّن آخر، من المفترض أن يتشاركا الحقوق نفسها. والمكوّنات المذكورة جسّدتها على المسرح المُمثّلة أنجو ريحان، التي عرفها الجمهور من خلال الشاشة الصغيرة ببرامج كوميدية.

والأزمة التي يراها يحيى (بالطبع أوافقه مع كثيرين مّمن حضروا أو لم يحضروا) تكمن في مشاهدة منطقة لبنانية -  تعجّ بالذكريات الجميلة والتاريخ المؤثّر- من خلال نظّارة طائفية بحت. مع العلم أن "المجدّرة الحمرا" لا تُمثّل طائفة مُحدّدة، بل تعكس طبقة اجتماعية في الجنوب الفقير.

ويقول المُخرج بمهارة تحليل عميق، كيف أن "المجدّرة الحمرا"، هي العنصر الجاذب من الأنثى (الجنوبية) للذكر (الجنوبي). وهذا تحليل للواقع المُعاش، لا علاقة له بالكُتب والمراجع. فالحجّة "أمّ العروس"، تشرح لابنتها كيف يجب أن تتصرّف "ليلة الدُخلة"، بطريقة تخلط تعليمات صنع "المجدّرة الحمرا" بتعليمات للعروس كيف تتصرّف ليلة الدخلة، لتكسب زوجها. وهذا المُتوارث الذي تتناقله النساء تحديدًا (الأمّ لابنتها...) لا يأخذ في الاعتبار معايير العلاقات الإنسانية، التي تحترم مشاعر وكيان الفرد سواء ذكرًا كان أم أنثى.

ومن منّا لا يعرف "مهزلة" الجواب الآلي السائد في القرى والذي تُعطيه الأم للأب حينما يسأل عن ابنته في حضور كالبيها للزواج: "راحت عالعين تملّي"، وذلك كي لا يقول العريسُ وأهله بأنّ العروسَ مُتلهّفةُ على الزواج! أمّا الحجّة والدة "سعاد" العروس في "مجدّرة حمرا"، فتطلب منها أن "تُتّقل حالها" على العريس. وبحسب تعليمات "الحجّة": "ما تعطيه كلّ شي من أوّل ليلة". فما كان من سعاد إلاّ أن ردت بدهشة واستغراب خلفهما جهلٌ مُطبق: "شو بدّي أعطيه"؟!

إن هذه التقاليد (ولا يعنيني أن تكون متوارثة حتّى الآن)، من زاوية تربوية، قدّ تُشجّع الجيل، والمُتمثّل هنا بسُعاد العروس، على اعتماد النِفاق، والتربية على إخفاء المشاعر الصادقة. فالمجتمع الذكوري، دائمًا يُمجّد قوّة الرجل الذكر، ويستضعف المرأة كأنثى مغلوب على أمرها، وهذا في السلوكات اليوميّة المُعاشة، لعلاقات سويّة في مجتمع يُقدّس الذكوريّة مُتسلّحًا بالدين.

فالزواج قبل كلّ شيء، ومن وجهة نظر الدين، هو التوافق بين الطرفين، وهذا البند مختصّ باحترام المساحة الخاصّة للفرد. أمّا في ما يتعلّق بالبند الثاني، وهو"الإشهار"، فبرأيي، هذا ما ارتآه الدين، لإسكات شائعات الناس. مع العلم أنّ الزواج هو علاقة حميميّة بين شخصين، ولا أعلم ما شأن الآخرين بذلك. ربما الحكمة من ذلك مرتبطة بمعرفة مُسبقة (أو وحي إلهي) فالزواج كما قلنا يبدأ باتّفاق وانسجام بين طرفين وليس قرارًا من الحجّة أو الحجّ يقتلُ حلمَ "ابنتهما سعاد" بدراسة الطبّ أو الهندسة!

خلال دراستي الرسم في معهد الفنون، كان أساتذتنا يقولون لنا: عند إلتقاط مشهد لِرَسْمِهِ في لوحة، عليكَ أن "تُمسمِر" اللحظة. والمخرج المُبدع "مَسمرَ" يوميات مُعاشة، عاكسًا التقاليد والعادات النابعة من الماضي، من دون جُرأة على اعتراض أو تغيير. والكارثة تكون عندما تقول الأنثى "لا" لوالديها لرفض قرار أُتّخذ ولا عودة عنه. وتتفاخر سعاد عندما سألتها "فطوم" ألم تنفردي بإتّخاذ قرار من قبل؟ بلى! فأنا قرّرت إقامة شهر العسل في مصر

وبالإضافة إلى تعليمات الحجّة لابنتها، لم تجرؤ سعاد أن تتصرّف من دون العودة إلى التعليمات (كتالوغ شهر العسل). فكانت تُعلم أمّها بالمستجدّات عبر الهاتف: "ما تشلحي تيابك دغري بس يقلّك!!" وهنا تبدأ عمليّة توريث الجهل، فالغلبة للمجتمع على الدين وعلى علماء التربية وعلم النفس وشرعة حقوق الإنسان.. وحقوق المرأة تحديدًا. المجتمع ذكوريّ ويُشرّع للذكر بالتحكّم في المرأة التي هي آلة لإنجاب الأطفال. وأذكر شخصًا صادفته في تجربة خضتها في التعليم في السعودية، كان يقول لنا نظريّته (وهو مُعجب بها) عن النساء: من حقّ الرجل أن يرتبط بإمرأتين: واحدة للإنجاب وواحدة للإعجاب!

وما فاجأ النساء في حديثهنّ مع الفتاة التي عاشت لفترة في باريس (حيث خالطت ثقافات أخرى) أنّها ترفض الزواج من أحد يريد إنجاب أطفال وهي مُطلّقة الآن. وعند عودتها إلى القرية، التقت بالصديق الذي كان حُبًّا لم يكتمل، فهرعت فاتحة ذراعيها، لتستقبله بالحضن والسلام من شدّة شوقها لصداقته وذكريات مشتركة، ففوجئت به مع لحيةٍ خفيفة ومُخطّطة، فأحجم عن السلام والحضن، مسارعًا بضربِ يده على صدره، وهذه من علامات السلام للملتزمين دينيًّا. فارتبكت ولم تُدرِ كيف تتصرّف؟ هل الوقوف على أطلال الذكريات كافٍ ليعيد بهجة لقاء صديقين يكنّان مشاعر صادقة؟ أمّ تلك كانت مُجرّد مشاعر نتاج عادّة سرّية لا تُزهر حياةً لأحد؟ 

قرأت مرّة في كتاب (على ما أعتقد بليخانوف) وكان بصدد الفنّ: بأن الفنّ للمجتمع وليس الفنّ للفنّ. بمعنى أنّ الفنّ غايته محاولة الإضاءة على مشاكل المجتمع للشروع في معالجتها. فمن ينسى لوحة "غيرنيكا" التي حرّكت مشاعر العالم، وقد صارت –حينها- معلماً أثرياً، لتذكّر دائماً بمآسي الحروب، إضافة لاعتبارها رمزاً مضاداً للحرب وتجسيداً للسلام. بعد الانتهاء منها طافت اللوحة في جولة عالمية لتصبح من اللوحات الأشهر، كما أن جولتها تلك ساهمت في لفت أنظار العالم للحرب الأهلية الإسبانية. وما أودّ قوله بذلك، إنّ أهمّية مسرحية "مجدّرة حمرا" تكمن في استخدام مفردات "خاصّة" لصوغ جملة "عامّة"، والجملة العامّة ليست مجرّد ثرثرة بين ضحايا زواج فاشل لأنّه مُدبّر، بل للإعلان بأنّ "المجدّرة الحمرا" ليست كما تعليمات الحجّة وسيلة غواية الإنثى الجنوبيّة لعريسها، بل مساحة حوار، لخلق مساحة من التفاهم والتواصل بين أبناء شعبٍ، تكتفي صباح بالقول له: "غدّيني خبزة وزيتونة وبتعشّيني بطاطا.."، فاستيراد بعض المفردات أو المُكوّنات من ثقافات خارجية، قد يحرق طبخة "المجدّرة الحمرا"!

الأصالة المطلوبة لا تكون باتّباع عادات محلّية نتوارثها، ونحن على يقين بعدم جدواها في يومنا هذا. فذلك يفضي إلى طريقين: إمّا انتهاج سلوكٍ بالٍ والغرق في دورٍ يُهمّشنا، وإمّا الكذب.. وهذا الطريق الذي يسلكه الأذكياء. المرأة الذكيّة هي التي تُقرّر بمَن ترتبط، وتُقرّر الإنجاب بعد الزواج من عدمه. المرأة لا تفقد قيمة الأصالة في المجتمع عند رفضها للإنجاب، ولا تبتعد عن أنوثتها. بلّ تمتلك قرارًا هو من حقوقها، كان المجتمع قد انتزعهُ مرتديًا عباءة الدين، العباءة تلك تُعمي العقول، فيغضّ البصر عن الظلم والعنف. تقنيًا، المونولوغ المُستخدم في العمل المسرحي بحِرَفيّة عالية، مقصود لجهة أن جمع مشاكل وقصص كثيرة، وحصرها في شخصٍ واحد، كنفخِ البالون إلى حدٍّ يفوق طاقته لينفجر! وليس المقصود الإنفجار، بل إن التكثيف الإدائي من أنجو ريحان كفيل بترك آثار تُحرّك الأفراد لرفض الظلم السائد جرّاء اتّباع تقاليد اجتماعية بالية، تنبذ "الحبّ" وتُبرّر للعنف، ولا تأبه لما قاله هربرت ماركوزه في السيتّينيات: مارسوا الحبّ لا الحرب.

(*) تعرض المسرحية مساء اليوم في مسرح مونو.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب