الثلاثاء 2023/03/07

آخر تحديث: 13:20 (بيروت)

شريفة فاضل.. مطربة "الليل" التي اعتزلت مرتين

الثلاثاء 2023/03/07
increase حجم الخط decrease
برحيل المطربة شريفة فاضل، قبل يومين، تكون قد سقطت ورقة جديدة في شجرة الريادة المصرية للفن العربي، إذ ظهرت المطربة الكبيرة ومارست نشاطها غناء وتمثيلاً في زمن العمالقة الكبار، وامتد بها العمر حتى أقعدتها الشيخوخة والفوضى الغنائية طوال أعوامها العشرين الأخيرة. وكما هي آفة التأريخ للحياة الفنية، صاحَب خبر وفاة شريفة فاضل تواريخ عديدة ليوم ميلادها، كانت كلها – للأسف – غير دقيقة، فالثابت من خلال حواراتها الصحافية المنشورة طوال عقد الخمسينيات أنها من مواليد 15 أيلول/سبتمبر1933 وليس 1929 أو 1931 أو 1938 كما رددت وسائل إعلام، وأن اسمها الحقيقي هو فوقية محمود أحمد ندا، وأنها حفيدة المقرئ والمنشد الديني الشيخ أحمد ندا، وأن لها أختاً أخرى احترفت الغناء هي سناء ندا التي احتفظت باسم العائلة، فكان ذلك سبباً في عدم معرفة الكثيرين بأن المطربتين شقيقتان.

   
(مع السيد بدير وابنهما سامي)

ورثت شريفة فاضل حلاوة الصوت عن جدها الشيخ أحمد ندا الذى كان له أسلوبه الخاص في تلاوة القرآن الكريم، اقترب فيه من مدرسة التلحين أكثر منه التجويد لآيات الذِّكر الحكيم، وربما هذا ما جعل بعض المستمعين ينفضون من حوله انتصاراً للمدرسة التقليدية التي كان يمثلها الشيخان علي محمود ومحمد رفعت ومَن أتوا بعدهما. وقد تشربت حفيدة الشيخ ندا، في ظل هذه النشأة الدينية، أصول الإنشاد وأداء الابتهالات الدينية وهي في سن صغيرة، وربما كانت هذه النشأة السبب وراء اعتراض أسرتها على عملها في الفن، غير أن وقوع الطلاق بين الأبوين ورعاية أمها لها، قضيا تماماً على أي معارضة، إذ كانت الأم تشجعها على الغناء، وهي أيضاً التي وقفت وراء تجربتها الأولى في التمثيل حين أشركها المخرج عمر جميعي في فيلم "الأب" العام 1947 وهي في حدود الرابعة عشرة من عمرها، حينما كانت السينما المصرية ترحب بظهور المطربين على شاشتها، زمن رواج الفيلم الغنائي في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية.

وقد حققت شريفة فاضل نجاحاً طيباً بعد هذا الفيلم، سواء على مستوى الغناء أو التمثيل، للدرجة التي جعلت المخرج ذاته يشركها في العام التالي –1948– في فيلم "اللعب بالنار" ويكتب اسمها في دعاية الفيلم مباشرة بعد اسمَي بطليه زوزو ماضي ومحمود المليجي. ثم كرس عمر جميعي نجاح شريفة فاضل في فيلمها الثالث "أولادي" في العام 1951، وفي العام ذاته ألحّ عليها لتقديم فيلم آخر هو "وداعاً يا غرامي" مع فاتن حمامة وعماد حمدي، حتى ولو فقط للغناء من دون المشاركة في التمثيل. لكن هذه الانطلاقة المميزة أوقفها في ذلك الوقت زواج شريفة فاضل من المخرج وكاتب السيناريو والممثل المعروف، السيد بدير، الذي دفعها للاعتزال الأول لمدة خمس سنوات أنجبت خلالها ابنيها سيد وسامي قبل أن تنجح في إقناع زوجها بالعودة للتمثيل، بشرط أن تكون تحت إدارته فقط، وهو ما تحقق لها في فيلمي "ليلة رهيبة" العام 1957، ثم "مفتش المباحث" العام 1959...

أعتقد أن شريفة فاضل لم تخلص لتجربتها في التمثيل قدر إخلاصها واهتمامها بمشوارها الغنائي، وهو ما يفسّر قلّة عدد أفلامها التي لا تزيد على 15 فيلماً أبرزها: "غازية من سنباط، حارة السقايين، سلطانة الطرب" الذي جسدت فيه شخصية المطربة منيرة المهدية، ثم آخر أفلامها "تل العقارب" العام 1985، في حين كانت تحقق نجاحاً لافتاً كمطربة خلال عقدي الستينيات والسبعينيات تحديداً، فغنت من ألحان كبار الملحنين مثل رياض السنباطي، منير مراد، محمد الموجي، بليغ حمدي، وسيد مكاوي، ومن أشهر الأغنيات التي حافظت على شعبية شريفة فاضل: "مبروك عليك يا معجباني، تم البدر بدري، حارة السقايين، لما راح الصبر، ليلة امبارح، والليل".. وهي الأغنية المعروفة التي اختارتها شريفة فاضل اسماً للملهي الشهير الذي أسسته في شارع الهرم في منتصف السبعينيات، وكان يؤمه كبار المشاهير والشخصيات العامة.



وفي حياة شريفة فاضل أكثر من تجربة إنسانية مؤلمة، ربما كانت أشدها وجعاً بالنسبة لها استشهاد ابنها الطيار سيد السيد بدير أثناء حرب تشرين/أكتوبر 1973 الذي غنت له أغنيتها المؤثرة "أم البطل" فباتت واحدة من أشهر أغنياتها على الإطلاق، وتحوّلت الأغنية إلى لقب التصق بشريفة فاضل حتى بعد مماتها. التجربة الثانية حينما تعرضت لمتاعب صحية في الكِلى اضطرت على أثرها إلى استئصال إحدى كليتيها، ورفض جسمها بعد أكثر من محاولة تقبل زرع كلية بديلة. وكانت لها تجربة قاسية أخرى، حينما استولى بعض الأشخاص بالتزوير على ملهى الليل الذي وضعت فيه كل ثروتها، ودخلت من أجله في صراع قضائي مرير قبل أن تُفاجأ ذات يوم بأحد هؤلاء الأشخاص يأتيها باكياً ويطلب منها السماح على أثر تعرضه لأزمات صحية متلاحقة وسفره إلى لأداء فريضة الحج، إذ قرر هناك إعادة ما اغتصبه مع شركائه إلى شريفة فاضل، لتقرر المطربة الكبيرة العام 2002 اعتزال الحياة العامة وتأجير الملهى الشهير، مستسلمة لأمراض الشيخوخة وحزنها على ابنها الذي لم تفارقها ذكراه طيلة حياتها حتى بعدما داهمها مرض "إلزهايمر" في سنواتها الأخيرة...

التقيتُ بالفنانة الراحلة مرتين، أولاهما العام 1990 بصحبة الموسيقار الراحل سيد مكاوي الذي كانت تحفظ إحدى أغنياته، ويومها قالت لي إنها لم تكن تحبّ التمثيل رغم نجاحها في شاشة السينما، وأن السينما لم تكن بالنسبة لها أكثر من وسيلة للحفاظ على صورتها لدى عشاق أغنياتها، لا سيما أنها بدأت مشوارها كممثلة قبل بداية البث التلفزيوني في مصر. المرة الثانية التى التقيتها فيها كانت بعد اعتزالها الثاني، حين صرحت بأنها لا تستطيع أن تشارك في ما سمّته انحطاط الذوق العام، وأن الأفضل لها البقاء في بيتها حفاظاً على اسمها الكبير الذي دفعت من أجله الكثير على مدى مشوارها الفني كله. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها