الثلاثاء 2023/03/07

آخر تحديث: 13:07 (بيروت)

الترجمة إلى العربية: خوف من الجنس والنبيذ

الثلاثاء 2023/03/07
الترجمة إلى العربية: خوف من الجنس والنبيذ
الرقابة (عن بي.بي.سي)
increase حجم الخط decrease
في كتابه "مديح الخيانة"، كتب الشاعر والمترجم اللبناني الراحل بسّام حجّار: "زعم الجاحظ أن الشعر لا يترجم (لا ينقل) ومذ ذاك والشائع في مقولنا الثقافي أن نقل الشعر من لسان الأصل إلى تصاريف لسانٍ آخر، إنما هو خيانة. وينعت بالخيانة زراية وتقبيحاً"... و"الترجمة خيانة الأصل مثلما يكون العابر والزائل خيانة الدوام. والنثر خيانة الشعر".

وحجّار، الذي كان ينظّر قليلاً للقارئ والمؤلف والمترجم والمتلقي، لكن بشكل مُعبّر ودقيق، كان يقول إنه يترجم بعض الروايات والأشعار التي يتمنّى أن يكون كاتبها، بل لا يتردّد في انتحال عنوان "كتاب الرمل" لبورخيس، وما فعله في ترجماته أنه صنع للنص المُترجَم "هالته" اذا أردنا استعارة تعبير فالتر بنيامين، فهو ليس مجرّد ناقل للنصّ، أدبيًّا كان أم فكريًّا، بل لا بد من بروز بَصمته، لُغته تحديدًا، وروحيته في ما يُترجم أو يُنقل.. وعلى هذا، يختار كثر من متذوقي الأدب الأجنبي، كتباً مترجمة لأنها بتوقيع بسام حجار ومن اختياره، كأن اسم حجار (المترجم)، يسبق اسم صاحبها أو كاتبها ومؤلفها، أو كأن بسّام حجّار مؤلفها الآخر.

نستهل هذه المقالة بـ"خيانة" بسّام حجّار، لنصل إلى واقع لا يحبه بسّام حجّار، فالقضية لمْ تعدْ تتعلّق بروحية المترجم أو بصمته أو تعدّد أهواء المترجمين، ولمْ تعدْ تتعلق بالترجمة عن النص الأصلي أو اللغة الوسيطة (الفرنسية أو الانكليزية). فخلال الأيام القليلة الماضية "فجّر" المترجم المصري المقيم في ألمانيا، سمير جريس، فضيحة جديدة حول حذف بعض المقاطع من كتاب "فهرس بعض الخسارات" ليوديت شالانسكي، صدر عن مشروع "كلمة". وكتب: "عندما صدرت ترجمة الصديق أحمد فاروق "مجد متأخر" للكاتب أرتور شنيتسلر، أطلق عليها ساخراً "ترجمة خالية من الكحول" بعدما طهّرها السيد الرقيب من كلّ أنواع البيرة والنبيذ والكونياك، ليسمح فقط بكلمة "مشروب" أو "شراب"، وفي ترجمتي (يقصد كتاب "فهرس بعض الخسارات")، نجتْ الخمور من مزاج الرقيب، إذ انصب غضبه هذه المرة على الجنس"...

وعلّق الكاتب الفلسطيني حسن خضر: "سبق وتكلمنا يا عزيزي سمير عن الكارثة التي ألحقتها الدار العربية للعلوم ناشرون بالترجمة العربية لروايات بول سوسمان: الجنس اختفى تماماً، والكنيسة صارتْ بيت العبادة، والصليب صار الرمز الديني للنصارى، والكهنة صاروا رجال الدين، أما الخمر فصار المشروب المفضّل. سوق الدار المذكورة ابراهيمي بامتياز وعينها عليه".

وكان المترجم المصري أحمد فاروق كتب في مقال له "تعاملت مع دور نشر عربية مستقلة، ولم أتعرّض قط لتدخل رقابي أو اعتراض من الناشر أو المدقّق على تعبير أو لفظ خارج الإطار المهني. لكن ترجمتي الأخيرة لنوفيلا "مجد متأخر" تعرضتْ بعد انتهاء المراجعة لتدخّل "رقابي بائس"، البيرة والنبيذ تحولا إلى "مشروب" أو "شراب" كمجاز الكل عن البعض، ليترك لخيال القارئ الأريب وضميره تصوّر أي مشروب هذا (أفلت مشروب الأبسنت من يد الرقيب المسكين لأنه يجهله ربّما)". وفي طريقة يذكر أحمد فاروق أنّ الكاتب والمترجم ياسر عبد اللطيف، فوجئ بأسئلة وُجهت له من باحثين في جامعة الجزائر، عن حذفه لكلمات مثل نبيذ وخنزير من ترجمته لـ"حكايات أمي الإوزة" لشارل بيرو، وقد أُدخلت هذه التعديلات أيضاً من دون علمه ومن دون إذنه.

ما ذكره سمير جريس وحسن خضر وأحمد فاروق، يعرفه كل من يتابع الترجمات إلى العربية، ومن يعمل في النشر، والأمر لا يقتصر على الكتب بل يطاول المسلسلات المدبلجة والأفلام التي تُمارَس الرقابة على أبسط كلماتها. فعبارة العلاقة الجنسية تتحوّل في الترجمة "موعداً"، والنبيذ "عصير عنب"... لنتخيل أنّ إحدى الصحف حذفت كلمة سكران من غلاف ديوان "أعتقد أنني سكران" للشاعر شبيب الأمين، الخوف من كلمة يطرح السؤال، هل يمكن انتاج ثقافة في خضم هكذا أجواء رقابية؟...

حتى بعض الدور اللبنانية لديه محاذيره القاسية في النشر بسبب الممارسات الرقابية، إذ يفكر بعض الناشرين التجاريين بالخيارات التسويقية ومزاجات الرقباء في الدول العربية المختلفة، وهذا الأمر ينعكس سلباً في نوعية الكتب، الروايات تحديداً، ونوعية الترجمات. ثمّة الكثير من المترجمين يعتبرون الترجمة مهنة ولقمة عيش فحسب، وليست بصمة كما عند بسّام حجّار، فيؤثِرون الصمت على حماقات مقص الرقيب وانتهاكاته المشينة.

عدا عن فعل الرقابة، هناك جرائم بعض "المترجمين"، وما يحصل أن فعل الترجمة يصير فعل "رجم"، كما سماه بسام حجار، إذ يلجأ بعضهم عن قصد إلى اعتماد الترجمات الغوغلية وكوارثها، ونصير أمام نص "كرشوني"... والأفدح من كل ما أوردناه، ما كشفه الكاتب العماني سليمان المعمري، عن سرقة بعض الترجمات، فقال: "طفت على السطح في السنوات الأخيرة ظاهرة مقلقة في سوق النشر العربي، وهي إقدام بعض دور النشر على السطو على كتب مترجمة سبق نشرها من قِبَل دور أخرى، وإعادة طباعتها حرفيًّا من دون بذل أي مجهود سوى تغيير الغلاف واسم المترجم (الذي يكون في الغالب اسمًا وهميًّا من اختراع دار النشر السارقة)". يضيف: "كتبتُ هنا غير مرة عن هذه الظاهرة التي لا يبدو أنها ستنحسر في المستقبل المنظور، في ظل غياب الرقابة على مثل هذه الممارسات المشينة وعدم التعامل معها بالصرامة الكافية. وكان آخرها واقعة سطو دار "عصير الكتب" المصرية على ترجمة دار المنى في السويد لرواية "آن في المرتفعات الخضراء"...

هذه المرة الثانية التي نكتب فيها عن الرقابة خلال أسابيع، بعد مقال "أوهام نهاية الرقابة العربية"، وللحديث صِلة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها