الإثنين 2023/03/06

آخر تحديث: 12:20 (بيروت)

"جمال سلبي" لمنصور الهبر... التجريد بتقنيات كثيرة

الإثنين 2023/03/06
increase حجم الخط decrease
معرض منصور الهبر، المقام لدى "غاليري آرت أون 56"(بيروت - الجميزة)، بعنوان "جمال سلبي"، يطرح أسئلة حول الفن والجمال واللوحة نفسها، وهي في مجموعها أسئلة معقّدة، وتستدعي معالجة خاصة. لا يسمح المجال للخوض في هذه المسائل بشكل مفصّل وشامل في هذه المناسبة، فالمهمة هنا شبه مستحيلة، لكن مجرّد ذكرها يشكّل فرصة لنا كي نتطرّق لبعض الطروحات، ولو في شكل مختصر، نظراً لعلاقتها بلوحة الهبر، وبأعمال أخرى أيضاً تعتمد النمط ذاته.

بالنسبة لأفلاطون، الذي يُعتبر المنظّر الأول للجمال، يجب أن يكون الفن البشري هو التمثيل الحسّاس لفكرة ما. هذه الفكرة يجب أن تكون مستوحاة من الطبيعة، ثمرة الفن الإلهي، وأن تعطي صورة مقلدة وبليغة لها. إن توازن النسب هو الذي يحدد جوهر الجمال، كما يقول الفيلسوف. مثالية إفلاطون ليس خفية على العارفين، لكن تعريف الجمال لا يتم دائمًا من خلال تصور "غرض لا نهاية له": نلاحظ على سبيل المثال أنه في بعض المجتمعات الأفريقية التقليدية، يتم تقدير تمثال صغير تبعاً لـ"فاعليته"، وليس من حيث جماله الشكلاني الصارم. بيد أنه يبدو، أيضًا، أنه في معظم الحالات يكون التمثال الصغير المفضّل على هذا النحو هو بالضبط التمثال الذي يبدو لنا الأكثر "جمالًا" من وجهة نظر جمالية بحتة، من دون الأخذ في الاعتبار "استخدامه" (وهو ما نجهله في معظم الأحيان). ومع ذلك، فإن تقدير تمثال أفريقي صغير لا يتم على نطاق واسع، إذا أمكن القول، لأن هذا التقدير يفترض في الواقع وجود "ثقافة" فنية معينة، ولا يزال هناك العديد من الأشخاص الذين يعتبرون أن الفنون الأفريقية (أو الأوقيانية  والهندية) تشهد فقط على "وحشية" مرادفة لغياب الفن. على أن استحضار الفنون "البدائية" أو "المبكرة"، في جميع الحالات، يضع مثل هذه الأعمال ضمن فئة محددة لا يمكن الخلط بينها وبين تاريخ الفن الغربي، الذي، كما هو الحال، يمثل الإنتاج الحصري للجمال، بحسب بعض المؤرخين، وبحسب مفهوم الجمال السائد أيضاً.

إن النظر إلى أعمال منصور الهبر وسواه، ممن يسلكون دروب الفنون الحديثة، أو بالأحرى المعاصرة، يمكن أن يستند، نسبياً، إلى ما صرّح به الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم (1711- 1776) حين قال: "الجمال ليس صفة متأصلة في الأشياء نفسها، إنه موجود فقط في العقل الذي يتأملها، وكل عقل يدرك جمالًا مختلفًا. أو، لنقل مرة أخرى، إن المتعة والألم ليسا فقط الرفقاء الضروريين للجمال". ويعمل منصور الهبر في معرضه الحالي على "ترتيب" المساحة التشكيلية من وجهة نظر معينة، علماً أن الناظر إلى أعماله لن يجد نمطاً هندسياً، على سبيل المثال، إذا ما افترضنا أن الهندسة، أو التوازن الدقيق في معناه الهندسي أيضاً، هي إحدى مقومات التنظيم والترتيب، بل ربما رأى البعض ما يشبه "الفوضى"، في حال كون ما ورد من معايير يمثل مقياساً يُستند إليه. العمل على القماشة لدى الهبر يخضع لنواميس أخرى، ويؤدي إلى النتائج التي نراها أمامنا: أشكال ملوّنة ومبعثرة، متقاربة أو متباعدة، متلاصقة أو متداخلة مع بعضها البعض. الحدود الفاصلة بين مكوّنات اللوحة ليست واضحة تماماً، وهذه المكوّنات ليست من طبيعة واحدة، إذا ما شئنا تحديد طبيعتها التصويرية الشكلية، أو من حيث إرتقاءاتها المتعددة الإتجاهات، أوالتقميش وكثافة اللون، كما من حيث نسب هذا اللون إلى هذه الفئة أو تلك قياساً لدرجات الحرارة أو البرودة، وبإختصار هناك سعي إلى حشد تقنيات عدّة في اللوحة الواحدة، التجريدية المنحى والإنتماء.

إن ما أطلق عليه صفة التجريد، في بداية القرن الماضي، يقدم مثالًا على هذا "الجمال" الحر. هذا فن يهدف إلى تجريد الفكرة، متحرراً من المعايير التي قامت عليها اللوحة الكلاسيكية، ومتحرراً من الموضوع والمعنى، ما يذكرنا بأولوية الدال significant على المدلول signifié. إن العمل الفني غير ملزم بإظهار الجمال، ولكن يجب عليه أن ينقل المشاعر إلى المتلقي. في كتابه "عن الروحانية في الفن"(1911) يكرر كاندينسكي، على طول الخط، أن التصوير هو الخبز الذي تحتاجه روحنا، والذي يجب أن يكون له تأثير على المشاهد. إن التناقض المكاني في لوحة الهبرالتجريدية قد يكون ذا معنى، على الرغم مما قد يسببه من إحراج للمتلقي، لكن المعاينة المطوّلة للعمل قد تودي إلى استكشاف بعض مظاهر الواقع المستترة وراء التكديس المتعمّد للأشكال التجريدية. هذا الأمر سيتوضح، نسبياً، للمشاهد قياساً إلى المسافة المكانية الفاصلة ما بينه وبين العمل، وهي التي ستساعده على رصد التفاصيل المتناثرة من جهة، أو جمعها في مخيلته ككل متماسك من جهة أخرى.

وبما أن الجمال والتعبير، كنهايات للرسم، لذلك سنهتم بمقارنتهما من أجل العثور على النهاية الأكثر ملاءمة ومرغوبة للرسم. نعني بالجمال ما يمكن أن يوفر متعة الرؤية، على النحو المحدّد أعلاه، ونعني بالتعبير قدرة العمل على تحريك العواطف البشرية، وإلى حد ما، النشاط الفكري. ليس من السهل فصل ما ينبع من العقل والذاكرة والحساسية في هذه المتعة التي تتوافر للمرء في تذوق لوحة يقول عنها إنها معبّرة؛ لكن يبدو أن المهيمن ينزل إلى العاطفة. تُعدّ المفردات المستخدمة عالميًا لوصف هذا النوع من العمل علامة بليغة على هذا: نتحدث عن الاقتراحات، والانطباعات، والمناخ، والشعر، والمشاعر، والشخصية، والسحر، والعاطفة، والجنون، والحنان، وما إلى ذلك. وقد يكون من الضروري إجراء دراسة شيقة للغاية لتوضيح هذا المجال، وربما ستؤدي إلى تصنيف الأنواع التصويرية وفقًا لأوتار الحساسية الأكثر تأثراً، ولكن يكفي من أجل غرضنا أن ننظر إلى الأشياء بشكل عام معين، وأن نقنع أنفسنا بتعريف التعبير في مقابل الجمال.

من خلال ذلك، يمكننا أن نستنتج إن فكرة الجمال، التي يدور الجدال حولها، والتي شاء منصور الهبر أن يعالجها، هي فكرة ذاتية للغاية. فهي ليست عالمية بل فردية، وقد اتخذت منحىً مختلفاً في فنون ما بعد الحداثة، على سبيل المثال. ومع ذلك، لا يمكننا الحديث عن ذاتية الذوق. يمكننا أن نأخذ في الاعتبار التمييز الذي قدمه إيمانويل كانط بين الجميل والممتع في كتابه "نقد كلية الحكم"، حين كتب: "الذوق هو قدرة الحكم على شيء أو على طريقة تمثيل الأشياء، وذلك بإظهار الرضا أو الاستياء بطريقة غير مبالية تمامًا، إن الهدف من هذا الرضا يسمى الجميل".. وبشكل عام، كما أوضح ديفيد هيوم في "مقالات في الجماليات"، أو بيار بورديو في La Distinction(التمييز)، فإن تكوين الذوق يعتمد على الثقافة والتعليم. لذلك لا يمكن ربطه بشخصيتنا فحسب، بل يعتمد أيضًا على السياق التاريخي والاجتماعي والاقتصادي...

هكذا، لا يمكننا اعتبار الجمال ذاتياً بحتاً. ومع ذلك، يمكن أن يكون نسبيًا. لذلك، وبالمعنى الكلاسيكي للجمال كما حددناه، لا يكون العمل الفني جميلًا بالضرورة. إن تطور التقنيات، وتحول الطبيعة وعلاقتنا بها، وتدهور تصور الطبيعة كصناعة إلهية، يفسر أن معايير الجمال آخذة في التغير، وإلى حد ما، يمكن اعتبار أن لكل شخص مفهومه الخاص عن الجمال، سواء كان مثاليًا أم لا. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها