السبت 2023/03/04

آخر تحديث: 12:55 (بيروت)

"تار" تود فيلد.. إنها ثفافة الإلغاء!

السبت 2023/03/04
"تار" تود فيلد.. إنها ثفافة الإلغاء!
أداء رائع من كيت بلانشيت في دور قائدة الأوركستر المثلية والمفترسة بأثر من نفوذها
increase حجم الخط decrease
إذا كان هناك شيء واحد لا يمكن قوله عن تود فيلد (1964، كاليفورنيا)، فهو أنه سينمائي غزير الإنتاج. في سنّ الـ58، لم يصدر سوى ثلاثة أفلام طويلة، منذ أن قرر في العام 2001 التخلّي عن مسيرته المهنية كممثل لتكريس نفسه بدوام كامل للإخراج. البداية جاءت مع فيلم "في غرفة النوم" (2001)، من بطولة توم ويلكنسون وسيسي سبيسك وماريسا تومي، والذي رُشّح لخمس جوائز أوسكار. فيلمه الثاني "أطفال صغار" (2006)، من بطولة كيت وينسلت وجنيفر كونيلي وباتريك ويلسون، رُشّح لثلاث جوائز أوسكار. والآن، بعد غياب دام 16 عاماً، يأتي فيلمه الثالث "تار"(*) من بطولة كيت بلانشيت التي لم يكن إنجاز هذا الفيلم ممكناً من دونها.

بلانشيت (الفائزة بجائزة أفضل تمثيل في مهرجان البندقية السينمائي عن هذا الفيلم) تؤدي دور البطلة التي تعطي الفيلم عنوانه: ليديا تار، قائدة أوركسترا برلين الفيلهارمونية، تلميذة ليونارد برنستاين وإحدى أعضاء الفئة الحصرية والنادرة على هذا الكوكب الحائزة جوائز الصناعة الفنية الأميركية الأربع الكبرى (أوسكار وإيمي وغرامي وتوني)، فضلاً عن كونها واحدة من أفضل قادة الأوركسترا في عالمٍ ما زال حبيس تحيّزاته الجنسية (حتى النساء يُطلق عليهن لقب "مايسترو"). بفضل موهبتها وإيمانها ومثابرتها، وقبل ذلك تغلبّها على العديد من التحيزات والسقوف، يبدو أن بطلة الفيلم تمتلك كل شيء، بدءاً من المكانة والتقدير الهائلين، وأسلوب الحياة الذي يسمح لها بالسفر من برلين إلى نيويورك والعودة بعد ساعات قليلة، دائماً على متن طائرة خاصة. إلى جانب شريكتها، حياتياً ومهنياً، شارون (نينا هوس)، عازفة الكمان الأولى في أوركسترا برلين الفيلهارمونية؛ تقوم الإثنتان بتربية ابنة صغيرة متبنّاة والاستعداد لتحدٍّ فني كبير مثل أداء (مع تسجيل مباشر) للسيمفونية الخامسة لغوستاف مالر.

التسلسلات الأولى للفيلم طويلة جداً (يستمر الفيلم بشكل عام أكثر من ساعتين ونصف) إنما رائعة لأن الحوارات، وأيضاً كل إيماءة وإشارة، تسمح لنا بتقدير الدرجة العالية من التطلُّب والتوتّر والكمال التي يخضع لها الفيلم (والمطلوبة في المقابل من جانب المتفرّجين). في خضم هذا الكون من التطوّر والتألق الفني، تبدأ في الظهور ملامح وأعراض فظاظة وتجاوزات وسوء معاملة. وسنفهم معها أن ليديا ليست قائدة الأوركسترا المثالية فحسب، لكنها امرأة لديها بعض الأسرار، معتادة على التلاعب وإساءة استخدام السلطة بأساليب تقارب الإذلال وأنقى أنواع السادية.


هنا عندما يبدأ الفيلم في إضافة طبقات، للتحوّل، لتغيير النغمة، والروح، والجوهر، وحتى الإيقاع السردي (تلك المشاهد الافتتاحية المطوّلة والدقيقة والرائعة ستتبعها أخرى لا تعوزها وفرة اللقطات المؤثرة). والنتيجة؟ فيلم غير مريح بقدر ما هو مقلق، ويكون أكثر إمتاعاً عندما يحرّر نفسه ويصير أقرب لمحاكاة ساخرة ذاتية، أكثر مما يحدث عندما يحاول الحفاظ على هالة من الهيبة و"البرستيج" أقرب إلى السينما الأوروبية (المثال الأقرب استدعاءً هنا هو أفلام النمسوي مايكل هانيكه).

يتماشى إيقاع الفيلم مع موضوعاته وأحداثه، فهو عمل وتري وبندولي بامتياز، تتناوبه مشاهد جزلة وفخمة مع أخرى أقرب ما تكون للمحاكاة الساخرة، لينتج في الأخير هجاءً اجتماعياً مفتوحاً على المزيد من الأسئلة وقطعة فنية جديرة بالتأمّل والتوقف أمامها. قيمته الكبرى تتمثل في معالجته وتناوله - من دون تحيّز أو تفاهات - موضوعاً مُلحّاً وصاخباً مثل رواج "ثقافة الإلغاء" في الغرب، حيث تحتلّ الشبكات الاجتماعية مساحة مركزية وتصير سياسات الهويّة رمّانة الميزان، ولأن بلانشيت تعود للتألق في دور بعيدٍ عن الأدوار التي عادة ما تختارها النجمات المعاصرات. تماماً مثلما أدت دور المحامية والناشطة المحافظة فيليس شلافلي في المسلسل القصير الرائع "مسز أميركا" (2020)، تجسّد بلانشيت هنا دور امرأة مثلية متنفذّة يمكن اعتبارها "مفترسة"، بالمعنى نفسه الذي يستخدم فيه العديد من الرجال مكانتهم وسلطانهم لإخضاع ضحاياهم.

من المثير للاهتمام أيضاً كيف يبني تود فيلد، عالم فيلمه، في قلبه ليديا تار كمركز مغناطيسي يدور حوله كل من شريكتها شارون، ومساعدتها الشخصية فرانشيسكا (الفرنسية نويمي ميرلان)، وزملاؤها الحاقدين مثل إليوت كابلان (مارك سترونغ)، أو موضوعات للرغبة مثل عازفة تشيلو روسية جديدة تدعى أولغا (الوافدة الجديدة صوفي كاور). يبدو الأمر في البداية كما لو كان فيلم سيرة ذاتية، لكنه ليس كذلك. إنه دراسة شخصية، لامرأة مثلية قوية، تمرّ بتفكك شخصيتها العامّة: يتساءل عن الفصل بين الفنان وعمله، وخطابات الأجيال المختلفة، والوصايات المجتمعية.

من فيلم حميمي و"حجراتي" إلى فيلم آخر يحتوي على عناصر تشويقية (في نزول البطلة إلى الجحيم، وفي انهيار إمبراطوريتها، تبدأ في الشعور بكل أنواع المؤامرات والوساوس)، من التقشّف الأوّلي إلى انفجارات المشاهد الأخيرة، كثيراً ما يولّد "تار" ردود أفعال متباينة ومتناقضة ومتضاربة في بعض الأحيان. إنه بعيد كل البعد عن أن يكون الفيلم المثالي الذي أشاد به العديد من النقّاد الغربيون، لكن في أوقات المشاريع "المفاهيمية"، حيث يُحسب كل شيء بالملليمتر للحصول على نتائج أوتوماتيكية وضمان الردود الجماهيرية المطمئنة؛ مثل هذا الرهان الطَموح والمقلِق والشاذ ليس فقط سبباً للفت الانتباه وإنما أيضاً لبعض المديح. فيلم مثل الموسيقى، رحلة تأخذ المشاهد إلى مناطق لا تستطيع الكلمات تحديدها أو شرحها.

(*) رُشّح الفيلم لـ6 جوائز أوسكار (أفضل فيلم، إخراج، سيناريو أصلي، تصوير سينمائي، مونتاج، وبالطبع الممثلة الرئيسية). 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها