الخميس 2023/03/30

آخر تحديث: 10:05 (بيروت)

الفانية "أمّ الإلهين"

الخميس 2023/03/30
increase حجم الخط decrease
تعشق فرنسا نقولا بوسان، أكبر رساميها الكلاسيكيين في القرن السابع عشر، وتنظم معارض خاصة بأعماله بشكل مستمر. واللافت انّ هذه المعارض تستقطب عدداً هائلاً من الزوار، ويشهد هذا النجاح للوله الفرنسي الدائم بهذا الفنان الذي عُرف بولائه الثابت لميراث النهضة الإيطالية، وجعل من روما موطناً ثانياً له. أحدث هذه المعارض يُقام حالياً في متحف ليون للفنون الجميلة، عنوانه "بوسان والحب"، ويحوي أربعين عملاً من نتاج المعلّم الأكبر للمدرسة الكلاسيكية الفرنسية، تُجسّد قصصاً عديدة من قصص العشق والوله والرغبة، وتتميّز بطابع ايروتيكي خاص ابتدعه بوسان خلال ثلاثة عقود من العمل المتواصل.

يأتي هذا العرض في خمسة محاور، خصّص أوّلها لفترة البدايات، وأهمّ الأعمال المعروضة في هذا المحور زيتية تُعتبر أول أعمال بوسان الكبيرة، وعنوانها "موت شيونا"، وهي من نتاج 1622. كما هو معروف، وُلد الفنان في مقاطعة نورماندي، شمالي فرنسا، واتجه باكراً إلى دراسة الفنون، غير أنّ والديه عارضا هذا التوجه، فواجه هذا الرفض، وهرب إلى باريس في 1612، حين كان في سن الثامنة عشرة. وصل الرسام الشاب إلى العاصمة الفرنسية خلال حقبة ولاية ماري دي ميديشي، ملكة فرنسا ونافارا التي رعت الفنون، وأنشأت لجاناً فنّية كلفتها بتزيين قصرها، وبدأ مسيرته كحرفي يعمل ضمن فريق كبير من الرسامين، وحظي بعد بضع سنوات برعاية شاعر إيطالي لمع في البلاط الملكي، يُدعى جيانباتيستا مارينو، وبدأ تحت رعايته في شق طريقه مستقلاً.

رغب بوسان في السفر إلى روما لدراسة الفنون، وقاده هذا الوله إلى فلورنسا حيث تعرّف من كثب على أعمال كبار رواد النهضة، واضطرّ إلى العودة فرنسا قبل أن يصل إلى روما، وتوقّف في مدينة ليون، واستقرّ فيها لبضعة أشهر، والتقى هناك بمتموّل من ميلانو يعمل في تجارة المخمل يُدعى سيلفيو رينو، كلّفه برسم لوحتين من الطراز الميثولوجي، تمثّل الأولى صراع الإله ميركوريوس مع العملاق آرجوس، وتمثّل الأخرى مصرع شيونا. أنجز بوسان هذا العمل في 1622، وبقيت لوحة شيونا في عهدة أسرة رينو حتى 1791، بينما ضاع أثر لوحة ميركوريوس وآرجوس. انتقل الشاعر جيانباتيستا مارينو من باريس إلى روما في 1623، ودعا بوسان للانضمام إليه، واضطر الرسام إلى البقاء في باريس لإنهاء بعض مهماته، ثم وصل إلى روما في ربيع 1624، واستقرّ فيها حتى ربيع 1640، وعاش خلال هذه السنوات العهد الذهبي الأول من مسيرته الفنية.

عُرضت لوحة "موت شيونا" للبيع منذ نهاية القرن الثامن عشر، وانتقلت إلى ملكيات خاصة عديدة، غير أنها بقيت مجهولة إعلامياً إلى أن عُرضت في معرض خُصص لأعمال بوسان الأولى أقيم في روما في العام 1998. ونُشرت أول صورة فوتوغرافية لهذه اللوحة في الكاتالوغ الخاص بهذا المعرض. بعدها، عُرضت اللوحة للبيع في غاليري بريطانية في 2016، واقتناها متحف ليون للفنون الجميلة من هذه الغاليري بمبلغ 3 ملايين و750 ألف جنيه إسترليني. احتفل المتحف بدخول هذه اللوحة إلى مجموعته، وشكّل هذا الاحتفال بداية لإطلاق مشروع معرض "بوسان والحب". تحقّق هذا المشروع مؤخّراً، وبدت لوحة "موت شيونا" من خلاله كأنها عمل افتتاحي يجسّد بداية دخول بوسان في عوالم الحب والعشق واللوعة.

في وسط اللوحة، تحضر امرأة عارية تتمدّد على أرض يابسة، ويظهر وسط شفتي هذه الحسناء سهم استقر في فمها. يتقدّم باتجاه هذه العارية رجل ملتحٍ يرتدي ثوباً أبيض يعلوه معطف عسلي، مشيراً إليها بذراعه اليمنى الممتدة باتجاهها، وتبدو على ملامح وجهه تعابير الحزن والوجل. يرافق هذا الرجل طفلان عاريان، يبكيان وهما يتقدّمان في حركة معاكسة، وكأنهّما يفرّان من هول المشهد. في أعلى اللوحة، تظهر امرأة تحلّق في السماء، ملتفّة برداء وردي يكشف ثدييها العاريين. تمسك هذه المرأة بيدها اليسرى قوساً، وترفع يدها اليمنى إلى الأعلى، وكأنّها سدّدت للتو القوس الذي استقرّ في ثغر العارية الصريعة الممتدة أرضاً.

تصوّر هذه اللوحة قصة ميثولوجيه إغريقية تروي مصرع امرأة تُدعى شيون بسهم انغرس في فمها، أطلقته أرتيميس، إلهة الصيد والبراري، وحامية العذرية والخصوبة. وتُعدّ أرتيميس إحدى أهم، وأقوى، وأقدم الآلهة الإغريقية، وهي ابنة زيوس سيد الآلهة، كما أنها من آلهة الأوليمب الاثني عشر، وتُعرف في العصر الروماني باسم ديانا. أمّا شيون، فهي ابنة ديداليون، المحارب الباسل الذي "غلب الملوك" وأثار اعجاب الشعوب القوية، كما يقول الشاعر أوفيد. هام بها كلّ من هرمس وأبولو، وهرمس رسول الآلهة الإغريق وثاني أصغر آلهة الأوليمب، وهو أحد أبناء زيوس، سيد الآلهة، ويعرفه الرومان باسم ميركوريوس. أما أبولو، فهو إله الشمس والموسيقى والرماية، وشقيق أرتيميس التوأم، وهو كذلك من آلهة الأوليمب. عشق هرمس الصبية شيون، فأنزل عليها النوم، وضاجعها أثناء غفوتها. كذلك، رغب أبولو بابنة ديداليون، فاتخذ شكل امرأة عجوز، وفتك بها. أنجبت شيون توأمين، أحدهما من هرمس، والآخر من ابولو، وافتخرت بأنها أضحت أمّاً لإلهين، وهي من البشر، فأثار ذلك غضب أرتيميس، فقضت عليها بسهم أطلقته بقوسها.

استعاد الشاعر أوفيد هذه الرواية في القرن الأول للميلاد، ونظمها شعراً في الكتاب الحادي عشر من ديوان "التحولات"، ويبدو أن هذه الأبيات شكلت أساسا للوحة بوسان. يسأل الشاعر: "ولكن ماذا أفاد شيونا/ أن تكون وضعت توأمين وفتنت إلهين/ وأن يكون أبوها محارباً باسلاً؟ ألم يكن المجد ذاته شؤماً/ بالنسبة إلى فانين كثيرين؟". غضبت الإلهة ديانا، وأخذت قوسها، وأطلقت سهماً اخترق ذلك اللسان. و"صار اللسان أخرس/ ولم يعد الصوت/ يطيع جهد الضحيّة، كي ينقل الكلام". قضت الأم الصبية، "وفيما كانت تحاول أن تتكلّم، كانت حياتها/ تسيل ضائعة مع دمها". ينقل بوسان هذا المشهد، ويظهر فيه ديداليون، كما في منظومة أوفيد، وهو الأب الذي "استمرّ يبكي يائساً ابنته/ التي اختُطفت منه".

تُمثّل هذه اللوحة انطلاقة بوسان في هذا العالم الميثولوجي، كما تشهد الأعمال التي ترافقها في المعرض، وكلّها تستوحي مواضيعها من هذا العالم عمومًا، ومن منظومة أوفيد خصوصاً. آخر هذه الأعمال تمثل قصة أبولو مع معشوقته الحورية دافني، وقد أنجزها الفنان في المرحلة الأخيرة من عمره، حيث عاد إلى موطنه، وشغل منصب "الفنان الأول" في البلاط الملكي حتى وفاته في العام 1665. رحل الفنان قبل أن ينتهي من صوغ هذه اللوحة بشكل كامل، وهي اليوم من محفوظات متحف اللوفر الذي اقتناها في 1869.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها