الخميس 2023/03/30

آخر تحديث: 10:20 (بيروت)

ساره ريفنز.. طفلة "الواتباد" الغامضة

الخميس 2023/03/30
ساره ريفنز.. طفلة "الواتباد" الغامضة
هذه الظاهرة تشكّل أنماطاً جديدة من القراءة، متولِّدة على وسائل التواصل الاجتماعي،
increase حجم الخط decrease
"إياّكِ واللعب مع الشيطان يا ملاكي، لا تجازفي في ما يمكن أنْ تندمي عليه لاحقاً".
"في عالم الشبكات الإجراميّة، حيث الكلمة للقوة والقتل والسلطة، كان للأسيرات وجودهنّ! خطِرات هنّ، داهيات فاتكات، كما أنّهنّ ظلال العصابات الكبرى، ممثِّلات أسيادهنّ، المدعوّين أيضاً مُلّاكهن أو أربابهنّ".
عاشت إيلْلا منذ مراهقتها أسيرة غصباً عنها. لكنّ مالكها، المدعو جون، يفضّل استخدامها لجسدها أكثر من سائر كفاءاتها، ما أغرق حياتها في كابوس حيّ، وذلك إلى أن أبلغها يوماً أنّها ستشتغل لشخصٍ آخر...
وإذ كانت إيللا تعتقد أنّه ليس هناك من هو أسوأ من جون، سرعان ما اكتشفت أنّ مالكها الجديد هو لاعب من فئة أخرى. فـ"آش"، زعيم شبكة آل سكوت الكاريزمي، يأبى وجود أسيرة في صفوفه. لسبب غامض ما، هو يكنّ كرهاً عميقاً لهؤلاء النسوة. وعندها تدور لعبة خطيرة بينهما، ذلك أنّ "آشر" قرّر أن يدفِّع إيللا الثَّمن، فيما هي لم تنوِ الاستسلام...".

بهذا اللمحة تعرِّف شبكة التوزيع الفرنسيّة الضخمة "فناك FNAC" برواية سارة ريفنز (Sarah Rivens) الأولى بعنوان "أسيرةCaptive "[1]، والتي صنعَتْ في غضون أشهرٍ شهرة كاتبتها في فرنسا حيث تحتلّ أعلى المراتب في لوائح المبيعات إلى جانب مؤلّفات كبار الأدباء الفرنسيّين، من أمثال بيار لوماتر (Pierre Lemaitre) أو دانيال بينّاك (Daniel Pennac).

قد لا يكون مستغرباً أنْ نقرأ أو نسمع عن كاتبـ/ـة شابّـ/ـة حقّقت إصداراتهـ/ـا الأولى أرقاماً قياسيّة في الغرب الأوروبّي أو الأميركيّ، حيث ما زالت للكتاب الورقيّ قيمته على نطاق واسع، لكنّ بالنسبة إلى سارة ريفنز، فإنّ كل ما يحيط بقصّة نجاحها يثير الاستغراب ويجعلها تستحقّ فعلاً لقب "الظاهرة".

فأوّل ما يلفت في سيرتها هو أنّ اسمها الأدبيّ هذا، سارة ريفنز، اسمٌ مستعار، وهي تُعرف في وسائل التواصل الاجتماعي بلقبها "الفتاة الغامضة" (Theblurredgirl- La fille floue) فيما يبقى اسمها الحقيقيّ مجهولاً، وكلّ ما يُعرَف عنها أنها في الرابعة والعشرين من العمر، وهي جزائرية تُقيم في الجزائر العاصمة حيث تعمل مسؤولة في قاعة رياضيّة، ويبدو أنّه لا يُعرف عنها أكثر من ذلك علماً أنّ صورها منتشرة في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعيّ، كما أنّها حضرت شخصيّاً إلى فرنسا للمشاركة في جولات لتوقيع كتبها في مركز "فناك" في باريس وسائر المناطق، وسط إقبال شديد وملحوظ لم تكن تتوقّعه لا هي ولا دار النشر ولا مركز التوزيع بحسب ما صرّحت هي نفسها في مقابلة معها. ربّما أصبحت معروفة الآن، لكن يبدأ الحديث عنها دوماً بسؤال: "هل تعرفون سارة ريفنز؟" أو "مَنْ هي سارة ريفنز؟".

الأمر الآخر في مسيرتها هو أنّ هذه الفتاة، المقيمة خارج فرنسا، على الساحل الآخر من المتوسّط، أتت إلى عالم الكتابة بالفرنسيّة من مواقع التواصل الاجتماعي، وتحديداً من منصّة "واتباد wattpad المخصّصة لمساهمات المشاركين الشباب على الأخصّ، كتابة وقراءة وتعليقاً وتقييماً. وقد بدأت سارة منذ العام 2020 بكتابة قصتها اللافتة، على حلقات (قصّة متسلسلة كما هو معتمد كما يبدو على الموقع)، وهي من نوع "الرواية السوداء"، أي الرواية البوليسيّة التي يتخلّلها التشويق والعنف والإثارة الجنسيّة (الإيروتيك)، وهو النوع المًستحبّ في أوساط المراهقات والصبايا، كما عند من تتراوح أعمارهنّ بين 25 و35 سنة. واللافت أنّ الجزء الأوّل من روايتها هذه قد حقّق أكثر من تسعة ملايين مشاهدة على واتباد، فيما حقّق الجزء الثاني 8,1 مليون مشاهدة. وهذا ما قاد إحدى دور النشر الشهيرة إليها. فهذه الأرقام أثارت اهتمام زيلي برتران (Zélie Bertrand) مسؤولة النشر عند "Hlab" الفرع من دار نشر هاشيت (Hachette) المتخصّص في اكتشاف المواهب الجديدة خارج الدوائر الرسميّة المعهودة. فقرّرت المخاطرة بنشر كتاب سارة ريفنز، وكانت البداية مع طبعة رقميّة لاقت إقبالاً من القرّاء على الشاشة، ثمّ كانت الطبعة الورقية، مع الخشية من الفشل، إذ كان هناك تصور بصعوبة بيع نسخة ورقيّة بسعر 20 يورو من رواية نُشِرت على واتباد وقُرِئَت مجاناً. ولذلك اعتقدت الدار أنّ عشرة آلاف نسخة ستكون كافية لتلبية هواة النوع، وكانت المفاجأة أنّها تبخرت في ظرف ساعة واحدة، فسارعت الدار، بالرغم من انقطاع الورق في حينه إلى طبع ثلاثين ألف نسخة أخرى. وهكذا بيع من الجزء الأول 180,000 نسخة، ومن الثاني، الذي سمّته الكاتبة الجزء 1,5 على أساس أن القصة نفسها تقريباً مع شخصيتين أُخريَيْن مختلفتين، بيع 90,000 نسخة، وهو رقم لا بأس به بالرغم من التراجع. وها إن ساره ريفنز قد شرَعت في كتابة نصٍّ جديد، ليُقرأ مجّاناً كالعادة على واتباد، على أمل أن ترى كتبها تُباع يوماً ما في بلادها حيث لم يحصل الموزِّع المُعتَمد على الموافقة حتى الآن.


يبدو أنّ هذا النوع من الأدب، أو الروايات السوداء، يلاقي رواجاً في أوساط الشبيبة، حيث التشويق والعنف والجنس، كما يلاحظ في الجزء الثاني حيث تشتدّ حروب السلطة والنفوذ وتقوى العلاقات الودّية والفرص الجديدة والخيانات، وحيث تبدو عائلة سكوت على وشك منعطفٍ جديد. يتّضح من ذلك أنّ هذا النوع من الكتابة موجّه إلى شريحة محدّدة من القرّاء، وربّما من الفتيات القارئات حصراً، اللواتي يجدن في هذه الأجواء المحمومة، ما بين العنف والجنس إثارة ما، تشويقيّة وعاطفيّة وجنسيّة حتى، لِمَ لا؟ فمن يطلع على غلافات الكتب على منصّة واتباد يجد ما يشبه ملصقات هذا النوع من الأفلام في صورٍ ووضعيات لافتة ومثيرة. والواضح أنّ هذا ما يجتذب "الجماعة"، جماعة الواتباد كما تسمّى (La communauté)، التي تدلي بتعليقاتها وتصحيحاتها وتشارك أحياناً في تغيير مسار الحبكة، وهؤلاء أنفسهم، من هذه الأعمار، هم الذين رأيناهم في حفلات التوقيع، يحضرون (يحضرْنَ) بكثافة، ويقفون صفوفاً طويلة، لمقابلة الفتاة الغامضة على أرض الواقع بعدما عرفوها في االعالم الافتراضيّ كما تقول سارة، ولكي يحصلوا على توقيعها على نسختهم (بالانكليزيّة والفرنسيّة) "Bonne lecture, with love!" (أتمنى لكِ قراءة ممتِعة، مع محبّتي) وهؤلاء هنّ أنفسهنّ اللواتي يحملْنَ أهلهن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على مطالعة الكتاب، أو يهديْنه للكبار ممّن يهمهم أمرهم. وبالرغم من هذا الاهتمام الجارف، قد تكون لهذه الشريحة آراؤها النقديّة. فهؤلاء الشابّات يعرفْن ما يُحبِبْن، وهنّ متطلّبات جدّا، لا بل أحياناً ناقدات مقذِعات يزرعْنَ التنافس بين الكتّاب[2].

لكن هل تكفي آراء هذه الشريحة، وإقبالها على قراءة هذه الكتب، لكي نحكم على هذا النوع من الأدب؟ وما رأي "الكبار" من القرّاء العاديّين، وليس من كبار النقّاد؟ لقد تتبّعنا بعض التعليقات على منصة واتباد، ولمسنا بشكلٍ واضح آراء سلبية جداً من هذه الفئة في كتاب سارة ريفنز هذا. إحدى القارئات عبّرت عن مفاجأتها بالرواية وأثنت على الحبكة في بدايتها فقط، لكنها أشارت إلى الكثير من الأخطاء وحالات الضعف في بناء الشخصيّات، آملة ألا يكون في النصوص اللاحقة هذا الكم من النواقص. إحدى الأمّهات صرّحت بأنها قرأت الكتاب، فقط لأنّ ابنتها البالغة من العمر 13 سنة، والتي لم تكن تحبّ المطالعة، اهتمّت بالرواية وغرقت فيها وأنجزت قراءتها. وعندما قرأتها هي نفسها أعطت فيه آراء سلبيّة جدّاً، واعتبرته "تهريجة عنفيّة" تسود فيه الفانتاسمات التي تغذيها هذه المراهقات حول قصص الحبّ والعنف والدماء... وقد وجدتها باختصار نموذجاً رهيباً وبليداً حيث الرواية السوداء بما فيها من عنف جسدي ومعنوي وحيث تعاني النسوة الساقطات المعذَّبات من متلازمة ستوكهولم (انْغِرام الضحية بجلادها). أما الأسلوب واللغة، فحتى ابنتها لاحظت كم أنهما ضعيفان (وطبعاً دار النشر تعيد صياغة النصّ وتصحيحه قبل طبعه ونشره كما ورد في مقال الإكسبرس). ثمّ تُنهي هذه الأم بأنها ستجهد لكي تحمل ابنتها على مطالعة أنواعٍ أخرى من الأدب والروايات.

وليس رأي هذه الأمّ ببعيد من آراء سيّدات أخريات قرأن الكتاب إما من باب الحشرية، بعد الشهرة التي لاقاها، وإما لأنهنّ تلقّينه هدية من مراهقات. ومع ذلك حقّقت الرواية وصاحبتها ما حقّقتاه من شهرة ومن مبيعات وصلت، في غضون أشهر فقط إلى 3,5 مليون يورو في فرنسا وحدها، ما عدا مداخيل الترجمة والنشر في دول أوروبيّة أخرى.

كلّ ذلك جعل من ساره ريفنز وأدبها ظاهرة يجدر التوقّف عندها، والنظر في نوعيّة أدبها هذا. لا شكّ في أنّ هذه الظاهرة تشكّل أنماطاً جديدة من القراءة، متولِّدة في وسائل التواصل الاجتماعي، وتمثّل شريحة مختلفة من القرّاء (وهنا القارئات) لها اهتماماتها الخاصة، ومواضيعها المثيرة والمفضّلة، مواضيع تتجاوب مع مشاعر وأحاسيس وغرائز فئة من المراهقين والمراهقات من جيل وسائل التواصل الاجتماعي (فايسبوك وانستغرام وواتباد وأمثالها) التي لا يخفى على أحد أنّها سهّلت على الجميع تناول الكلمة كتابة وتأليفاً وقراءة حتى بتنا نطالع عليها ما هبّ ودبّ، بأصابع الكبار والصغار. وإن تكن هذه الوسيلة، في استعمالها الصحيح والجيّد، مدخلاً إلى عمليّة اطّلاع وتثقُّف، إلّا أنّ ما يُخشى من دورها السلبي، هو أن تؤدّي إلى تنميط هذه الأجيال "وتصنيعها" وفق قوالب معيّنة في مراحل مبكّرة من حياتها فتصبح عصيّة على التغيّر والتطوّر لاحقاً، وهذا ما نلمح بوادره بقوة، ويصبح لهذه الفئة المنمّطة "أوثانها" أو "معلّميها" لمجرد أنها آتية من هذا العالم، وإلا كيف نفسِّر هذا الإقبال على حفلات توقيع كتب سارة، فقط للتعرّف بها شخصياً، ومعانقتها طويلاً بتأثّر كبير بعد الحصول على توقيعها. أليس ذلك أشبه بلقاء المعلّم أو المرشد الآتي من غيب، أو من عالم افتراضي بعيد (هو هنا عالم مواقع التواصل الاجتماعي)؟

ولنكن واقعيين وصريحين أكثر، فبعد اطّلاعنا على الآراء النقديّة الواردة عن كتاب "الأسيرات"، من أناسٍ عاديّين كما ذكرنا، يمكننا تصنيف هذا النتاج في باب الأدب "الهابط" تماماً مثل تلك الفنون والأغاني الهابطة والسخيفة التي جارى أصحابها السوق وسعوا وراء الكسب الماديّ بمعزل عن التطلّع إلى الجودة والإبداع. والدليل نجده في كون مجلّة الإكسبرس أوردت المقال عن سارة في باب "الاجتماعيّات" وتحت عنوان "قصّة نجاح" وما تحقّق من أرباح، وليس في باب "الأدب" أو "الفنّ" عرضاً وتقييماً. وليس هذا النوع بجديد على المجتمعات، بل نجد منه في كلّ زمانٍ ومكان. لكن، فلْنكنْ إيجابيّين، ونأمل في أن تكون هذه المنصّات، وهذه النجاحات، مدخلاً إلى عالم الأدب الحقيقيّ، وأن يحدثّ التغيير يوماً ما في نفوس هؤلاء المراهقين والمراهقات، من كتّاب وقرّاء على المنصّات الاجتماعية، فيتوجّهوا أكثر إلى النتاج الأدبي والفنّي الإنساني العميق والقيّم ليُصنّفوا عندها مع الكبار ليس في المبيعات وحسب بل في الجودة والنوعيّة.

لا بدّ أن يبقى لنا هذا الأمل، ونتشبّث به، خصوصاً بعدما شهدنا، قبل شهرين او ثلاثة، بروز جيل جديد يختلف عن أجيالنا هذه، إنّه جيل الروبوتات من نوع "شات جي.بي.تي." (ChatGPT)، والذي يعدنا بأنّه قادر على بناء رواية متكاملة من معطيات بسيطة تُعطى له في أي موضوع يُطرح عليه. أغلب الظنّ، أنّ جيل الروبوت وجيل المراهقين هؤلاء يُقمّشون من المواضع نفسها، من العالم الافتراضي الذي باتوا يعيشون في كنفه. لكن ما بين الإثنين سنبقى مراهنين على أنّ البشر هم الأقدر على التأقلم والتطوّر والتميُّز بالإحاسيس والمشاعر وعيشها بحدودها الإنسانيّة القصوى ليعبّروا عنها يوماً ما في أدبٍ إبداعي جميل، إنسانيّ وممتِع. 
________________

[1].

- fnac.com/a17088484/Captive-Tome-1-Captive-Sarah-Rivens#int=S:Suggestion|FA%3ALIV|1|17088484|BL1|L1

[2] . ملاحظة زيلي برتران، مسؤولة النشر في "Hlab"، كما وردت في مقالة أنياس لوران (Agnès Laurent)  في مجلّة "إكسبرس"، عدد 2/3/2023 التي استقينا منها بعض المعلومات.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها