الجمعة 2023/03/03

آخر تحديث: 12:35 (بيروت)

السرد الإفريقي المعاصر.. مغامرات روائية تفضح الواقع

الجمعة 2023/03/03
السرد الإفريقي المعاصر.. مغامرات روائية تفضح الواقع
وول سوينكا
increase حجم الخط decrease
يبدو أن إشكالية اللغة لن تقف طويلًا كحائط صد أمام مرور الأدب الإفريقي المعاصر، في مجال الرواية على الأخصّ، إلى المنطقة العربية، تلك المنطقة الشائكة التي لا يبتعد الأدب الإفريقي كثيرًا في ما يطرحه عن بيئتها المضطربة وأجوائها المشتعلة، ولا ينفصم عن لحظتها الواقعية الراهنة، المشحونة بالخطورة الداهمة والأزمات الملحّة والقضايا المصيرية.

ولربما تكون هناك ندرة في ترجمة السرد الإفريقي إلى العربية، مقارنة بترجمة ما هو وافد من أوروبا والولايات المتحدة وأميركا اللاتينية، على مستوى دور النشر الرسمية والمؤسسية الكبرى. لكن، على الرغم من ذلك، فإن هناك نوافذ استثنائية تفتحها دور النشر الأهلية والخاصة هنا وهناك، لتطلق يومًا بعد يوم من هذا الهامش المتوهج نماذج لافتة لروائيين أفارقة من دول متنوعة، منها نيجيريا وجنوب إفريقيا والكاميرون وغانا وكينيا والسنغال وغينيا، بل وجزر القمر، إحدى أصغر الدول الإفريقية وأبعدها عن الشرق الأوسط، وغيرها من دول القارة التي تتقاطع مع العالم العربي وشعوبه وأحواله وهمومه وجراحه في شؤون مشتركة جوهرية، تفوق مساحات الخصوصية والاختلاف والغرائبية لدى تلك الدول.

وعلى صعيد موازٍ، فإن النقد العربي الجاد والمُكتشِف يسعى قدر جهده إلى القيام بدوره للتفاعل الخصب الحميم مع هذه الإطلالات الروائية الإفريقية البارزة، لاسيما أن مجموعة غير هيّنة من هذه الأعمال السردية قد حظيت بتقدير دولي كبير، من القرّاء والنقّاد والهيئات المانحة للجوائز العالمية المرموقة، حال نشرها بالإنكليزية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية، حيث بيعت منها ملايين النسخ، وحاز بعض مؤلفيها جائزة نوبل في الآداب مثل النيجيري وول سوينكا، والجنوب إفريقي جون ماكسويل كويتزي، ومواطنته نادين غورديمر.

وفي هذا الفضاء، يتعاطى الشاعر والناقد المصري محمد السيد إسماعيل مع مغامرات الروائيين الأفارقة المعاصرين في كتابه الجديد "أساليب السرد في الرواية الإفريقية" الصادر حديثًا عن المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة، منشغلًا على نحو خاص في ما يتقصّاه على مستوى الوعي والاستبصار الموضوعي والفني والجمالي بتلك التقاطعات مع هؤلاء المبدعين الأفارقة، التي تحتمها معطيات الواقع وعوامل الجغرافيا والتاريخ، وذلك لأن "معرفتنا بإبداعاتهم الأدبية عمومًا والروائية خصوصًا هي معرفة بذاتنا، واكتشاف لبعد مهم من أبعاد هويتنا، طبقًا لنظرية دوائر الانتماء المتداخلة في أبعادها العربية والإفريقية والإسلامية".

ويأتي انحياز محمد السيد إسماعيل إلى قراءة أساليب السرد الإفريقي وغاياته في هذا التوقيت الحرج مبررًا من منظوره الخاص، على اعتبار أن أغلبية الروائيين الغربيين في مرحلة ما بعد الحداثة يكادون يكتبون أعمالهم الأدبية خارج إطار الزمن التاريخي، في حين أن الروائيين الأفارقة شأنهم شأن معظم الروائيين العرب، لا يزالون يتمسكون بـ"جماليات المقاومة". وهنا يمكن القول إن انتقاءات الناقد للروايات التي يشتغل عليها في كتابه، ومنها: "أشياء تتداعى"  لتشنوا أتشيبي، و"ابنة بيرغر" لنادين غورديمر، و"آكيه.. سنوات الطفولة" لوول سوينكا، و"الباب الأزرق" لأندريا برينك، و"يوميات عام سيئ" لجون ماكسويل كويتزي، و"نصف شمس صفراء" لتشيماماندا نغوزي أديتشي، هي انتقاءات وظيفية في الأساس، تنبع من توقعاته لدورٍ ما، يجب على الأدب أن يلعبه، وإلا فقد الكثير من قيمته.


ويكشف محمد السيد إسماعيل صراحة وجهة نظره هذه، التي تقدّم وظيفة الأدب والتزامه تقديمًا كلاسيكيًّا على جمالياته المجردة، بل ويعتبرها نقطة الالتقاء المحورية بين هؤلاء الروائيين الأفارقة المختارين في كتابه، وأقرانهم العرب ممن لا يزالون يهتمون بطرح قضايا مجتمعية وسياسية وإيديولوجية وإنسانية ملموسة في رواياتهم، بهدف تعرية الواقع بجرأة، وفضحه بقسوة، ووضع اليد على ثغراته وآلامه الظاهرة والخفية، ومن ثم العمل على مراجعة الذات ومواجهة الكوارث ومحاولة إيجاد الحلول.

العربي والأفريقي
وهنا يعمم الناقد المصري المسألة بتأكيده أن "الأدب عند العربي والإفريقي ليس فعلًا مجانيًّا، بل فعل مقاومة بالأساس، نظرًا لتعرضه للعديد من القضايا المصيرية، مثل قضية الهوية، وعلاقة الأنا بالآخر الغربي المستعمر، والتفرقة العنصرية، وقضية الصراع الطبقي". وفي هذا الصدد، فإن الباحث يستند إلى ارتباط الكثير من الأدباء الأفارقة بالنضال السياسي على وجه التحديد، فنادين غورديمر مثلًا ظلت تعيش داخل أتون النار منذ بدأت علاقتها بالإبداع، وتصدت بقلمها عبر سنوات طويلة لكل ما يدور في جنوب إفريقيا من قوانين تعسف عنصري. ولهؤلاء المبدعين المناضلين آراء قاطعة دائمًا بشأن "ضرورة" ارتباط الإبداع بقضايا الوطن، حيث يقول تشنوا أتشيبي على سبيل المثال "من الواضح لي أن الكاتب الإفريقى المبدع، الذي يحاول تجنب القضايا الاجتماعية والسياسية الكبيرة فى إفريقيا المعاصرة، سينتهي إلى أن يكون غير ذي موضوع، مثل الرجل السخيف في المثل الشعبي، الذي يترك البيت المحترق كي يطارد فأرًا هاربًا من اللهب".

كذلك، فإن الفصل بين العام والخاص في روايات العالم الثالث، سواء الإفريقية والعربية، هو فصل صعب وفق محمد السيد إسماعيل، حيث يرى الأدباء حياتهم الخاصة في ضوء القضايا العامة المصيرية، أو أنهم يتعاملون مع القضايا والهموم العامة بوصفها شأنًا خاصًّا، كما في أعمال وول سوينكا مثلًا التي تعكس واقعه وحياته في الوقت نفسه، فالراوي في "آكيه.. سنوات الطفولة" يتماهى بأكثر من إشارة مع وول سوينكا، ويروي قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها سنوات طفولته، التي كشفت عنصرية الرجل الأبيض، وهي قضية الرواية الإفريقية الأساسية عمومًا.

وتحت هذه المظلة الوظيفية العامة، التي تجمع الروايات الإفريقية المنتقاة بين دفتي الكتاب، فإن هناك حيثيات أخرى تعتمد عليها اختيارات محمد السيد إسماعيل، وتتعلق هذه المرة بما هو أدبي وجمالي. ولعل أبرز هذه الحيثيات الرغبة في إبداء التنوع في "أساليب السرد"، وفق عنوان الكتاب، وتعيين تطورات هذه الأساليب والبنى السردية في الرواية، كجنس أدبي مستورد أيضًا بالنسبة للكاتب الإفريقي، كما هو الحال بالنسبة للكاتب العربي المعاصر.

ملامح
وفي مثل هذه المباحث التخصصية التفصيلية، تتجلى مهارة الناقد التحليلية كناقد أكاديمي متمرس، إذ يتنقل بين البنية الحجاجية (الخطاب الإقناعي العقلاني والعاطفي لتعديل رأي المتلقي وسلوكه) لدى تشنوا أتشيبي، والبنية الدرامية عند نادين غورديمر، ويتلمس ملامح رواية السيرة الذاتية لدى وول سوينكا، وسمات الرواية العجائبية عند أندريا برينك، كما يبرز خصائص بنية رواية الأدلوجة (الطرح الإيديولوجي) لدى جون ماكسويل كويتزي، ويقف عند البنية الواقعية التأريخية لدى تشيماماندا نغوزي أديتشي.

وإذا كان الدور أو فعل المقاومة يبدو بمثابة إطار واحد حاكم لهذه الروايات، فإن التعدد الصوتي والفروق التقنية والخطابية والبنائية والأسلوبية بينها، والوظائف المتنوعة للغة التواصلية والاجتماعية والجمالية التي تختلف بين رواية وأخرى، هي كلها مقدّمات لما يصل إليه محمد السيد إسماعيل من نتائج وتفاصيل، منها مثلًا أن الرواية تبقى عند هؤلاء الكتّاب الأفارقة جميعًا، كما تظل بشكل عام حول العالم، هي الجنس الأدبى الوحيد الذي لا شكل له، بمعنى أنه "لا يعرف ثبات الشكل طبقًا لتقنيات فنية موروثة ومستقرة كما هو الحال في الشعر والمسرح مثلًا، وهما جنسان أصيلان فى الأدب الإفريقى  سبقا نشأة الرواية".

الباب الأزرق
ويذهب محمد السيد إسماعيل، بين جُملة نتائجه اللافتة والمثيرة، إلى وجود تشابه كبير بين بعض الروايات الإفريقية والعربية، فرواية "الباب الأزرق" لأندريا برينك تقترب من رواية "الناب الأزرق" للروائي المصري فؤاد قنديل، ولا يرجع ذلك إلى تقارب العنوانين، بل إلى التقارب العجائبي فى أجواء الروايتين. وكذلك فإن رواية "نصف شمس صفراء" لتشيماماندا نغوزي أديتشي شبيهة برواية "بيروت بيروت" للروائي المصري صنع الله إبراهيم، التي تدور حول الحرب الأهلية اللبنانية، وما وقع فيها من أحداث دامية بين بيروت الغربية والشرقية، في إطار بنية فنية لافتة لا تقل ثراء عن الرواية الإفريقية المناظرة لها. كما يوجد تشابه بين رواية "ابنة بيرغر" لنادين غورديمر ورواية "حكاية تو" للروائي المصري فتحي غانم، حيث ترويان قصة أب مناضل ماركسي، وانعكاس ذلك على الابن توفيق أو تو طبقًا لشهرته عند غانم، وعلى الابنة روزا لدى غورديمر.

أما بالنسبة لفكرة توظيف الأدب نفسها، فإن الباحث المصري يصل في نهاية قراءاته للروايات الإفريقية إلى عدم تعارضها مع استقلال الأدب النسبي عن الواقع. فالأدب ليس صورة مرآوية لهذا الواقع، بل "مقاربة جمالية، تقوم على انتخاب المادة الدالة وإعادة تركيبها وتنظيمها، في بنية فنية ضامنة لاستمرارها وفاعليتها". 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها