الأربعاء 2023/03/29

آخر تحديث: 13:01 (بيروت)

12 عاماً على "الربيع"... استحالة السكوت عن الحياة المتكلسة

الأربعاء 2023/03/29
12 عاماً على "الربيع"... استحالة السكوت عن الحياة المتكلسة
الثورة السورية
increase حجم الخط decrease
الثورات الشعبية في البلدان العربية أعطت الانطباع بأن ثمة مشتركات كثيرة بينها، سواء بشعاراتها أو مطالبها أو الفئات التي شاركت فيها. ذلك يدلّ على أن هذه الحركات هي مظهر لتيار شامل يعم المنطقة. وهي تواجه قوى، سلطوية، متشابهة هي الأخرى، بشعاراتها وخطابها وآليات عملها. أي أننا أمام خطابين متناحرين: خطاب سلطة وخطاب ثورة. هذان الخطابان كانا يتصارعان بخفوت أحياناً أو بحدة أحياناً أخرى منذ عقود، حتى وصل الأمر إلى نقطة الفراق. الحياة أو الموت. لا يمكن لهما التعايش بعد اليوم في الساحة ذاتها. درجة الصراع تتراوح بين العنف الشديد، كما حصل في ليبيا، أو الهزيمة السلسة للنظام أمام شباب الثورة كما حصل في تونس ومصر. ومواصفات القوة التي وسمت الأنظمة العربية تجلّت في أكثر من محور على رأسها ممارسة العنف ضد المعارضين، فبالعنف تسكت الأصوات المعارضة والرافضة، والمحتجة.

عادة ما يبدأ العنف من الشارع لينتهي في زنازين مظلمة تشرف عليها مخابرات النظام وهي تستخدم كافة الوسائل لانتزاع شهادات، ومعلومات، وادعاء بارتكاب جرم، وتشويه لحقائق. ويتبع العنف مستويات أخرى من وسائل القوة والهيمنة، كالديماغوجيا الاعلامية، وتشويه الحقائق، ونقل الحدث بصورة مزوّقة، وفبركة الوقائع لتحسين صورة النظام، والترويج لأشخاص مسؤولين هم بالأساس عديمو الكفاءة، ولصوص، ومرتشون، وظالمون. 

كان الاستحواذ بارزاً على مفاصل الدولة، ووضعها بيد حزب السلطة أو عائلة الرئيس أو المسؤول خصصاً الأجهزة العسكرية والأمنية، إضافة إلى المفاتيح الاقتصادية في البلد، وخلق طبقة فاسدة وثرية ومرفهة لكنها من نتاج النظام. تقوم هذه الطبقة بتخريب ذائقة المجتمع، وتشويه قيمه، وتفريق وحدته بهذه الطريقة أو تلك. كما يعتمد النظام على وجود عدو خارجي، وهنا يمكن أن تكون قضية فلسطين، أو الغرب وأميركا باعتبارهما يتآمران على البلد المعني، وقيمه الدينية والاخلاقية. عدو خارجي كأن يكون القاعدة كحركة عالمية متطرفة، والأصولية في أشد تمظهراتها عنفاً وتخلفاً. وابتكرت بعض الأنظمة المتهاوية بعبع الحرب الاهلية، فإما بقاء النظام أو الحرب الأهلية، وهو يسوغ بقاءه ويسوغ شرعيته، وكأن الحروب الأهلية ليست صنيعة سنوات من الممارسات الخاطئة لتلك الأنظمة، واعتمادها على هذا الطرف من المجتمع أو ذاك في بقائها. لعقود ظلت اسرائيل الشماعة الضخمة التي علقت عليها الأنظمة العربية أخطاءها وكوارثها تجاه شعوبها منذ ما يزيد على نصف قرن، رغم أنها، أي تلك الأنظمة، في كثير من الحالات لم تعمل أي خطوة حقيقية لدعم حق الشعب الفلسطيني في نيل حقوقه ومنه إقامة دولته المستقلة.

مذابح جماعية
كان العنف هو الرافعة لكل تلك الأساليب السلطوية طوال نصف قرن وقد مورس بشتى الطرق. مذابح جماعية، تشريد مئات الآلاف، إبادة مدن، شن حروب، تدخل بشؤون الدول الأخرى، عدا عن ممارسة أفظع أنواع التعذيب في المعتقلات الرهيبة، والتجسس على الشعوب. هذه باختصار الأسس التي جعلت تلك الأنظمة تحافظ على وجودها كل تلك العقود. لكن الحياة تغيرت، والأحداث العالمية سارت في اتجاهات مغايرة، بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفياتي وسقوط زمن الإيديولوجيا، سواء كانت يسارية أو يمينية، قومية أو دينية. كانت هذه بديهية سهلة وواضحة مثل الماء، لكن الأنظمة لم تستطع هضمها أو رؤيتها على الأقل.

الشعوب العربية عاشت عقوداً تحت هيمنة وسطوة أنظمة مثل تلك، ولدت أجيال جديدة في ظل فضاء اجتماعي آخر، وفي ظل حراك عالمي لم يكن مألوفاً، لعل أبرز ما فيه وضع الديموقراطية كمفهوم، وآليات، وممارسة، يافطة عالمية راحت تلفّ قارات العالم أجمع. النظام الديموقراطي المتمثل بشكل أساس بتعدد الأحزاب، وحرية الصحافة والاعلام، وقدسية حقوق الانسان والانتخابات والبرلمان واستقلالية القضاء والحق بالتظاهر وإبداء الرأي والسفر والعقيدة، وما إلى ذلك من مقومات حضارية راحت جميع الشعوب تمارسها يومياً أو تطمح إلى ممارستها. والجيل الشاب من الدول العربية ليس بعيداً من هذا الفضاء العالمي وحراكه الاجتماعي والسياسي وهو ينتقل بخطوات نوعية نحو مرحلة بشرية تختلف كليا عما كان قبل عقود. الجيل الجديد يطمح إلى السِّلم، لذلك رفعت معظم التظاهرات والاحتجاجات شعار: سلمية.. سلمية، سواء في طرابلس أو القاهرة، دمشق أو صنعاء وبغداد. الاحتجاجات السلمية تعطي شرعية لحركة الجماهير الغاضبة هذه، كونها تطمح إلى إصلاح الوضع وتغييره سلمياً بنبذ لغة العنف والسلاح والقتل، وهذا ما يسحب البساط من تحت ماكينات الأنظمة العسكرية التي تدربت على القتل والمواجهات العنيفة، وينزع الشرعية عن أي نظام يستخدم العنف في قمع تظاهرة سلمية مثل تلك.

ومن أبرز المشتركات بين تلك الثورات أن الشباب اتكأوا على الثورة التكنولوجية في مجابهة السلطات، عبر الموبايل وفايسبوك وتويتر والبريد الألكتروني، حتى إن تلك الوسائل كانت أشبه بالحزب الجديد القائم على تنظيم المواعيد، وتبادل الأفكار والحوارات، وايصال الرسائل بين شخص وآخر، اضافة إلى نشر الوثائق البصرية كالأفلام والمشاهد عبر يوتيوب، والوثائق الورقية التي تدين السلطة وممارساتها عبر توثيق يومي لما يجري في المجتمع. كما سهلت الثورة التكنولوجية وجود إعلام مضاد لإعلام السلطة، يعتمد المصداقية وشمولية نقل الحدث، حتى صار الفرد يطّلع على ما يجري في أي زاوية مهملة وزقاق ومنطقة، في المدن والقرى والشوارع والجامعات والمعسكرات. وهو ما خلق إعلاماً مضاداً جباراً لم يستطع معظم الأنظمة العربية الوقوف أمام مدّه الزاخر. لم يبق سوى وسيلة واحدة هي إغلاق مصادر الاتصال تلك وإيقافها. فتم ايقاف الموبايل والفايسبوك والانترنت وملحقاتها في عدد من البلدان التي حصلت فيها التظاهرات السلمية تلك. لكن هذا الحل يعني في النهاية تعطيل الحياة برمتها، وبذلك حكمت تلك الأنظمة على نفسها بأنها ضد الحياة وخارج التاريخ، لأن مهمتها هذه مستحيلة وغير منطقية. وتقودنا هذه الحقيقة إلى أن من يستخدم ثمار التكنولوجيا في الثورة هم جيلها بالتحديد. الغالبية من المتظاهرين كانوا من جيل الشباب، الجيل الذي لم يلوث بالآيديولوجيا.

جيل 
إنه جيل نشأ بعيداً من جعجعة الشعارات الكبيرة التي سادت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. وهو الجيل الذي نشأ في أحضان الحداثة، لا على صعيد التكنولوجيا فقط بل أيضاً الملابس، الموضات، الفيديو كليب، الحلم بالسفر إلى العالم، تعلم اللغات الأجنبية. الجيل الذي يكاد يشارك البشرية بانتمائها إلى كوكب الأرض وهمومه، لا إلى بقعة جغرافية صغيرة فقط، أو هوية دينية بعينها أو إرث حضاري بائد. جيل طامح الى الانفتاح الانساني على البشرية. ترتب على واقع الانفتاح أن هذا الجيل يؤمن بالهوية الوطنية العابرة للقبائل والطوائف والأديان، كما حدث في مصر واليمن وتونس، والعراق مؤخراً. وهو توجه يرعب السلطات الحاكمة التي كانت تستخدم هذه الأوراق لتمتين بقائها في سدة الحكم. والشباب في تلك البلدان مشغولون أيضا بالهمّ اليومي، بالخدمات، بالإصلاح للحياة التي يحيونها. اصلاحها بتوفير العمل، والتعليم، والصحة، والمشاركة في صناعة مستقبلها، وهذا ما شاهدناه في لافتاتهم وشعاراتهم ونداءاتهم. لقد تجاهلت الشعارات القومية الكبيرة، ومحاربة الاستعمار، والقضاء على إسرائيل، والدعوة لحروب التحرير وغيرها من شعارات سادت قبل عقود. وكان شعار "الشعب يريد الإصلاح" مشتركاً بين مدن عربية كثيرة، من شمال إفريقيا وحتى الخليج. فالسكوت على نمط الحياة المتكلسة لم يعد ممكناً، والتعطش إلى أن يعيش الفرد كغيره من شبيبة العالم الحر المتحضر همّ يشترك به الجميع في أرض العرب. من هنا ليس من المبالغة القول إن المنطقة تعيش تحولات تاريخية كبرى، قد تغير الخريطة في مساحات شاسعة، اجتماعية وسياسية وثقافية، وهذا هو بالتأكيد، جوهر الحداثة المعاصرة. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها