الثلاثاء 2023/03/28

آخر تحديث: 14:30 (بيروت)

حلمي التوني.. حرية المرأة لفتح الأفق المسدود

الثلاثاء 2023/03/28
increase حجم الخط decrease
الجمال والحرية وجهان لعملة واحدة، فلا يمكن توقّع أي شيء منسجم أو استشراف أي معنى جميل في قفص ضيّق مغلق أو خلف جدار معتم أو عند أفق منسدّ. وإذا كانت الـ"هي" (فينوس، المرأة، الأنثى، الحوريّة، الزهرة، الثمرة، السمكة، عروس البحر، ملكة النحل والهداهد والطيور، الأرض، الطبيعة) رمزًا للجمال والخصوبة والتفتح والتجدد قديمًا وحديثًا، فإنها لا يكتمل بهاؤها، بل لا يتحقق وجودها ونماؤها أصلًا، من غير أجنحة للانطلاق والانفلات والتحليق، فعلية أو مجازية.

بالتزامن مع احتفاليات اليوم العالمي للمرأة الممتدة على مدار الشهر الجاري، سمّى التشكيلي المصري المخضرم حلمي التوني (89 عامًا) معرضه الجديد "أنا حرة" (القاهرة، غاليري بيكاسو، مارس/آذار 2023)، وهو منعطف، لعله ليس الأخير، في سلسلة معارضه المنحازة إلى الأنثى في ربيعها وانفجارها، والربيع في أنوثته ودفئه، ومنها: "نساء وخيول"، "للنساء وجوه"، "فاكهة محرّمة"، "ليه يا بنفسج"، وغيرها.

مراوغة شعرية
يستخدم التوني في عنوان معرضه الجديد مراوغة شعرية، لعلها من إيحاء اليوم العالمي للشعر في مارس/ آذار أيضًا، إذ تقول المرأة في لوحاته المتوهجة، الصاخبة الألوان والحركة والموسيقى والإيقاعات، بصوت زاعق: "أنا حرة"، في حين أنها تقصد ببساطة أن تقول، بشدوٍ فاتن: "أنا جميلة". وببساطة كذلك، يوضح التوني فلسفته في مانفستو المعرض بقوله: "أنا حرة، صيحة المرأة في كل زمان ومكان. اهتم كل الفنانين وأبدعوا في تصوير جمال المرأة، وكنتُ واحدًا منهم. لكن، ربما أختلفت عنهم قليلًا في الجمع بين جمال المرأة وحريتها، فلا قيمة للجمال بدون الحرية، ولا معنى للحرية بعيدًا عن الجمال".

ولربما يسلب حلمي التوني، في لوحات معرضه التي تجاوزت الثلاثين، المرأة أحيانًا جوانب من ملامحها، أو حتى يخفي بعض أعضائها، لكنه أبدًا لا يغفل جناحيها، فهذه الأجنحة هي الثيمة المحورية للرؤية والفكرة والاشتغال والتخييل. وهي أجنحة ذات وظيفة مزدوجة، فهي للزينة والتجمّل من ناحية، كأجنحة الفراشات والملائكة، وهي من جهة أخرى للمقاومة والتمرد والتحدي والصمود والخلاص والارتقاء والوصول إلى أبعد مدى في فضاء التحرر وإثبات الذات واستعادة الهوية.

وعند هذا الدور الثنائي للأجنحة البديعة المشرقة، التي تفتح مسالك سحرية للأمل، تتلاقى لوحات التوني مع عبارات الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم: "شابة يا أم الشعر ليلي، والجبين شق النهار/ والعيون بحرين أماني، والخدود عسل ونار/ واللوالي فى ابتسامتك، يحكوا أسرار المحار/ يا للي ساكنة القصر عالي، إمتى يهنا لي المزار؟".

حمولات إشارية 
ويشحن حلمي التوني ثيمة "المرأة ذات الأجنحة" بحمولات إشارية وإسقاطية متنوعة. فحرية المرأة تعني ذلك السعي الخطير اللا محدود إلى إيجاد مفاتيح لأزمات مستفحلة في المشهد المصري الراهن، والإنساني على وجه العموم. المرأة، بمنظوره، لا يمنعها تجمّلها ورقتها وهشاشتها وشفافيتها من أن تخالف وضعيتها المجتمعية المستقرة والمتوقعة دائمًا ككائن مستضعف، مهزوم، مغلوب على أمره، لتصير بأجنحتها الجديدة المكتسبة قوة قادرة على القول والفعل معًا، وإزاحة الجمود الموروث، والحصار المطبق على جسدها وعقلها وطموحاتها، وخلخلة القوانين والقيود المفروضة، وإحداث ثورة على الأنساق السلطوية والأبوية والفوقية الجائرة المتعسفة، المتحكمة في مصيرها وقراراتها منذ القدم.

بهذه الأحلام، التي يحوّلها الفنان إلى آمال ممكنة، تثب المرأة فوق رؤوس النخيل، وتعتلي أسطح أهرامات الجيزة الشامخة، وتقفز بردائها الأحمر الناري كشهاب من كوكب إلى كوكب، ومن نجمة إلى أخرى، وتقطف زهرات اللوتس وغصون الزيتون وعناقيد العنب وحبّات التوت والتفاحات القلبية الناضجة والزهرات اليانعة من الحقول والحدائق، ومن الجنّات والفراديس العليا. إنها المرأة الواصلة بين دعاء الأرض، واستجابة السماء.

وإن هذه الـ"هي"، متعددة الأوجه، لا تتوقف أبدًا عن الاقتحام، في كل بيئة وكل مناخ وكل مكان، في البر والبحر والجو، في الغابة والصحراء والوادي وعلى ضفاف نهر النيل، الذي ينتظر التطهر بدوره والغد الأفضل. تمتطي أحيانًا جوادًا أو سمكة عملاقة، أو تصير هي الجواد وهي السمكة. يقف فوق رأسها هدهد، أو تكون هي ذاتها الهدهد "رمز البصيرة النافذة". تخطو بدرّاجتها الرياضية، لكنها خطوات غير اعتيادية، فالدراجة مهيأة أيضًا لتجاوز الحدود وتخطي العقبات وإزالة الألغام القهرية وممارسة القفز والطيران لبلوغ المعنى الكامل للتحرر المنشود.

حصاد البهجة
وفي لوحات معرض "أنا حرة"، الذي يحمل عنوان رواية إحسان عبد القدوس الشهيرة من غير اشتباك فني مع تفاصيلها وشخصياتها خارج غاية الحرية ذاتها، يستحضر حلمي التوني كعادته الرموز الشعبية والفناتازية والأسطورية، خصوصًا ذات الطابع المحلي المصري، التي يستعين بها من أجل الإيهام بأن المسافة قصيرة بين الممكن والمستحيل، بين الحقيقة والخيال، بين الصحو والحلم. وهكذا، لا تبدو هناك فروق كبيرة مثلًا بين العروس في يوم زفافها، وعروس البحر، والسمكة المتأنقة، والطائر الغرّيد، وبين الفتاة الباسمة، والشجرة المتفتحة، والساحرة القادرة على فعل المعجزات، وبين قلب المرأة، وتفاحة الجنة، وبين أنغام العازفة، ورحيق الفاكهة والزهرات الغضة.

وفي هذا الربيع الأنثوي الواعد بالجمال وبالحرية معًا، تبدو الـ"هي" في لوحات حلمي التوني واثقة مطمئنة من إنجاز نصر قريب يخلصها من ماضيها وحاضرها البائسين. ولذلك، فإنها عادة متفائلة، ضاحكة، رافلة في أثواب مصبوغة بالحيوية والصخب اللوني والضوئي. هي تزرع بيدٍ، وتحصد البهجة والمرح بيدها الأخرى مباشرة، من دون انتظار.

ولا تكفّ المرأة في لوحات التوني عن اللعب واللهو، والرقص والغناء، وعزف الأنغام الموسيقية، لإيجاد غذاء للروح، وخلق متنفس لإنعاش الوجدان والضمير، وتوليد طاقة إيجابية في مواجهة الخراب القائم في كل مكان. هي امرأة التحولات، الممثلة لسائر الطبقات والفئات. وبقدر تمكنها من رفض انكسارها وتحطيم أسوارها وتغيير ذاتها ونيل حقوقها في الاختيار والحياة، فإنها تُكسب الآخرين صفة تبديل أنفسهم، وإزاحة الضغوط، وتحسين الأوضاع من حولهم، ورسم واقعهم النظيف والجميل بأيديهم الرافضة للقبح والتلوث.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها