الإثنين 2023/03/27

آخر تحديث: 13:37 (بيروت)

قراءة 1979 في مجلة "مواقف"..لحظة حاسمة لتاريخ الفكر العربي

الإثنين 2023/03/27
قراءة 1979 في مجلة "مواقف"..لحظة حاسمة لتاريخ الفكر العربي
increase حجم الخط decrease
نشرت مدونة hypotheses هذا البحث لإيفون ألبرز Yvonne Albers، عن مجلة "مواقف" الثقافية التي توقفت عن الصدور في منتصف التسعينيات، وهو يظهر جانباً بارزاً من السجال اللبناني العربي، الذي حصل غداة سقوط شاه إيران وسيطرة الخميني على الحكم العام 1979. ننشره هنا مترجماً من دون هوامش مع بعض الاختصار.

نُشرت مجلة "مواقف" بين العامين 1968 و1994 من قبل الشاعر السوري أدونيس ومجموعة من المثقفين منهم خالدة سعيد، حليم بركات، صادق جلال العظم، ولاحقاً كمال أبوديب، إلياس خوري وكمال بلاطة وغيرهم. وإلى جانب كونها مشروع الدورية الخاصة بأدونيس بعد انفصاله عن مجموعة مجلة "شعر"، كان إطلاق "مواقف" بمنزلة رد فعل مباشر على صدمة 1967: فمن خلال مطالبة المجلة بالكتابات الجذرية في التراث الفكري، شاركت في الدعوة الفكرية آنذاك لممارسة النقد الذاتي. وعلى الرغم من سعي أدونيس إلى وضع المجلة خارج أي معسكر سياسي، إلا أن هذا النموذج العابر للأيديولوجيا قد حلّ محله اعتزاز المنشور المعاصر بالعالم الثالث، ودعم المقاومة الفلسطينية، فضلاً عن الترجمات والقراءات المنتظمة للنظرية الماركسية الجديدة، ما يسمح بتعريف "مواقف" في تلك الحقبة المبكرة باعتبارها جزءاً مما وُصف بأنه "اليسار العربي الجديد".

وعندما اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975، احتجبت "مواقف"، ثم عاودت الصدور في العام 1978. ومقارنة بأعدادها التجريبية المحمومة والنقدية، فإن ألم ويأس الكاتب المثقف إزاء حرب عنيفة يدوي في هذه الأعداد الجديدة من المجلة. وفي العام التالي عادت روح التفاؤل إلى صفحاتها. كانت الثورة الإيرانية التي أسفرت عن سقوط رضا شاه بهلوي موضع تقدير، ليس فقط من قبل المرجعيات الإسلامية، لكن أيضاً من قبل العديد من المثقفين العلمانيين العرب الذين اعتبروها انتصاراً تاريخياً على الإمبريالية التي مثلها الشاه. ولم تكن هيئة تحرير "مواقف" مُستثناةً من هذه النشوة. ففي العام 1979، أصدرت عددين: 34 و35. كانت تواريخ نشرهما قريبة جداً من بعضها البعض لدرجة أن المرء قد يفترض أن العدد الرقم 34، وبسبب التأثير الحماسي للأحداث الفعلية، كان مرتجلاً ومُدرجاً تلقائياً.

كان في العدد 34 موضوعان خاصان: الجزء الأول مخصص للشعر العربي المعاصر، وقدمه الشاعر والصحافي عباس بيضون بدراسة مطوّلة لجيل الشباب من شعراء جنوب لبنان، وتطرح السؤال عن دور المثقف اللبناني الجنوبي في حقبة اكتسب فيها الجنوب الشيعي المنسي أهمية سياسية وثقة في النفس في سياق الحرب الأهلية. وكان الجزء الثاني من العدد بعنوان "الإسلام والخصوصية". ومهدت له ملاحظة تحريرية قصيرة على أنه استمرار لنقاش تاريخي حول الخصوصية الثقافية التي ظهرت مع النهضة العربية ومع الكيانين المسميين "الغرب" و"الشرق". وكانت الثورة الإسلامية في إيران، كما جاء في الملاحظة التحريرية، تعيد هذا النقاش إلى يومنا هذا. وبالتالي شعر محررو "مواقف" بالحاجة إلى إعادة فتح النقاش حول بعض ردود الأفعال الأخيرة على الأحداث الإيرانية. ونجد بين مقالات حازم صاغية وبوعلي ياسين وعوني بشير، مساهمة للناقد والروائي الياس خوري، وفيها يقارن الخميني بالنهضوي جمال الدين الأفغاني، بحِجة أن الإثنين يشتركان في الهدف المتمثل في محاربة الإمبريالية الغربية بالإسلام ومن خلاله. ويفترض خوري أنّ الخميني يمثّل استمراراً تاريخياً لمشروع دام قرناً من الزمان لإنهاء الاستعمار، وهو يوحد الناس بالإشارة إلى لغتهم المشتركة، لكن المفقودة، لغة الغالبية: لغة الإسلام.

وفي العدد التالي، 35، نجد مقالًا آخر لخوري يقدم جواباً مثيراً للاهتمام على نصه السابق. فتحت عنوان "الذاكرة المفقودة"، يناقش ميدان الكتابة الأدبية والنقدية في أوقات الحرب الأهلية المستمرّة، التي كشفت عن عدم القدرة على التفكير في الواقع الاجتماعي في الثقافة العربية. يُعيد خوري هذا العجز إلى ما يسميه "الذاكرة المفقودة"- وهي ذاكرة دُمّرت تدريجياً منذ النهضة. إن استعادة هذه الذاكرة تتطلب أولاً لغة الغالبية (التي لها جذور في الإسلام، كما ذكر في العدد السابق). وثانياً، تتطلب نصاً ينطوي على موته، نص تفجير الحداثة، أي: نص ما بعد حداثوي. وبالعودة إلى العدد 34، ختم أدونيس جزء "الإسلام والخصوصية" بنصه "بين الثبات والتحول: خواطر حول الثورة الإسلامية في إيران". ويتصل العنوان بسلسلة دراسات أدونيس السابقة المنشورة بين العامين 1974 و1978، التي حلّل فيها تراث الشعر العربي وحوله إلى نقد ثقافي للمجتمعات العربية التي يبدو أنها غير قادرة على التقدّم. وبخلاف دراسته السابقة، يقدّم الإسلام باعتباره مظهراً من مظاهر الثقافة الشرقية الأصيلة. تعتمد حِجَّة أدونيس على الافتراض المتناقض إلى حد ما بأن الإسلام (باعتباره ثقافة) يمثل كلاً من جوهر الشرق ومحركه الوحيد للتغيير الاجتماعي. 

تنطبق العلاقة المبهمة بين السبب والنتيجة في إعداد مجلة ما، على كل قضية، كما هو الحال بالنسبة للتغيرات طويلة المدى في مسارها. ولن يكون المرء قادراً على تتبع جميع العوامل التي تؤدي إلى تعديلات في شكل المجلة ومحتواها، ولا تقييم التأثير الدقيق لعامل واحد. ومع ذلك، فإنني أزعم أن لحظة 1979 كان لها تأثير في شبكة "مواقف" الاجتماعية وكذلك في خطابها. ربما يكون الانقسام الشهير بين صادق العظم وأدونيس هو "الأثر" المباشر للعام 1979 في المجلة. فالعدد الخاص عن الثورة الإسلامية، ومقال أدونيس على وجه الخصوص، دفعا العظم إلى الاستقالة من منصبه كمحرر مشارك في "مواقف" والانفصال الفكري عن صديقه السابق. وعبّر عن وجهة نظره في كتابه الصادر العام 1981 "الاستشراق والاستشراق معكوساً"، وهو مراجعة لـ"استشراق" إدوارد سعيد، حيث انتقد العظم المثقفين "اليساريين" السابقين الذين، وفي رد فعل ساذج على ثورة الخميني، استشرقوا "الشرق" من خلال تمجيد الإسلام، وأدونيس أسوأهم جميعاً. أعقب هذا الاتهام جدلُ أخذٍ وردٍ في صفحات مجلة "مواقف" ودوريات أخرى بين العامين 1980 و1982 (وظلّت قضية خلافية طويلة بعد ذلك). وهو ما أصبح نموذجاً لانقسام اليسار العربي في مواجهة الثورة الإسلامية.

وفي أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، قدمت "مواقف" بشكل مفاجئ هيكلًا تحريريًا جديدًا بحيث انتقلت من هيئة تحرير إلى إدارة في المقام الأول، مصحوبة بملاحظة قصيرة مفادها أن "مؤلفي مواقف هم أيضاً محرروها". وما قد يبدو أولاً على أنه توسيع لهيئة التحرير هو في الواقع إضعاف لمشروع جماعي (على الأقل من الناحية الخطابية).

في ما يتعلق بخطابها، ثمة مسألتان رئيستان برزتا خلال العام 1979 واحتلتا جزءاً كبيراً من صفحات "مواقف" حتى إغلاقها. فأولاً، ثمة الجدل حول الإسلام، وعلاقته بالثقافة العربية وموقعه في التراث الثقافي العربي، وأهميته في عملية التحديث - وهو موضوع لم يكن موجوداً أساساً في مرحلة النشر الأولى من "مواقف". ويمكن اعتباره أكثر سمات المجلة "أدونيسية" بعد العام 1979، إذ أصبح أحد المواضيع الرئيسة المتناولة ولم يكن تناولها قد بدأ إلا بعد الثورة الإسلامية. أصبحت مسألة الإسلام جزءاً من هوية "مواقف"، وفي العام 1989 تخللت صفحات المجلة ندوة حول "الإسلام والحداثة"، عقدت مع دار الساقي في لندن. وثانياً، دخول النظرية ما بعد البنيوية مصحوبة مع تقدير أقوى للنقد الأدبي الذي ستقدّم فيه مواقف مساهمة بارزة في الثمانينيات. ويرجع ذلك أيضاً إلى تغيير مركزي في الموظفين في هيئة التحرير مع الناقد كمال أبو ديب وإلياس خوري، ناهيك عن خالدة سعيد، والمساهمين المنتظمين مثل كاظم جهاد، الذين ترجموا وناقشوا وحاولوا تطبيق دو سوسير وبارت ودريدا في كتاباتهم عن الأدب العربي. ويمكن رؤية مؤشر آخر لـ"تحول ما بعد الحداثة" في "مواقف" في انفتاح المجلة على الرواية، التي كانت تقريباً غير مبالية بها من قبل. فالياس خوري، على وجه الخصوص، جادل (ومارس) تفكيك السرد الأدبي ما يظهر العَلاقة المتصدعة مع الماضي الثقافي وهو ما أماطت الحرب الأهلية اللبنانية اللثام عنه. 

سرديات التغيير 
تسمح المقاربة الظاهراتية "الفينومنولوجية" لقراءة العام 1979 من خلال مجلة، والعكس بالعكس، ببعض الأفكار الأخيرة حول علاقة ثقافة الدوريات بـ"السنوات المهمة". إن القراءة الانتقائية للعام 1979 من خلال "مواقف" بعيدة كل البعد من السرد العالمي للعام، بل هي بالأحرى لوحة متناقضة ومجزأة لاستجابات الفكر العربي للأحداث السياسية التي مثلها هذا العام. جمعت "مواقف" 1979 حركة شعرية شيعية وثورة شيعية في عدد واحد. وتكشف الشرق "الحقيقي" من خلال حرب أهلية مدمرة وثورة إسلامية مُحرِرة، عبر صفحاتها. وأصبح الإسلام الثقافة المفقودة واللغة المفقودة للكثيرين، لكن فقط عندما يمكن استعادة هذه اللغة من خلال نص مُفكك. ما زال كل من هذه المقالات يمثّل وجهات نظر فردية، لكن قراءتها معاً تلقي الضوء على كيفية تأثير 1979 في بحثٍ امتدّ لعقود في مسألة الحداثة، ودور الأدب، ووصاية المثقف. ومع ذلك، فإن المكان الذي تلتقي فيه ردود الأفعال هذه على العام 1979 في فعل القراءة ليس تعسفياً، ولا هو خارج التاريخ. إذ بحلول العام 1979، كانت "مواقف" جزءاً من المشهد الفكري في بيروت لأكثر من عشر سنوات، وكمجلة، كانت تمثل دائماً مشكاة أيديولوجية. تتطلّب الصورة المتزامنة لردود الأفعال الفكرية العربية لهذا العام دراسة مقارنة لقضايا المجلات النظيرة، مع الأخذ في الاعتبار أيضاً المجلات الثقافية الصادرة خلال "لحظة 1979"، مثل "كرمل" محمود درويش(1981) أو "فصول" جابر عصفور(1980).

وتكشف قراءة "مواقف" حتى العام 1979، بعض التغييرات الرئيسية التي واجهتها المجلة وخضعت لها على مدار العام. إذ كان للشقاق بين أدونيس والعظم، واستقالة الأخير من مجلس إدارة "مواقف"، أهمية كبرى. كان كلاهما من الأصوات البارزة الداعية إلى النقد الذاتي العربي العام 1967. وبسبب تبادلهما الاتهامات بـ"الخيانة"، لهذا المشروع المشترك واستقالة العظم، تحطمت مهمة "مواقف"، التي ارتكزت على وجه التحديد على اللحظة التاريخية للعام 1967، ويبدو أن إعادة التنظيم التحريري الرسمية اللاحقة -رغم كونها مؤقتة- رد فعل مباشراً على هذه البلبلة. ورغم أن "مواقف" ستعود بعد بضع سنوات للإشارة إلى التحرير الجماعي في دمغتها، إلا أن روح المجموعة التي ظهرت في افتتاحيات أواخر الستينيات والسبعينيات لن تعود أبداً. وعلى المستوى الخطابي، تعكس "مواقف" بعد 1979، الانفصال عن التطابق السابق مع مشروع اليسار للتحرير. وما يكتسب أهمية بدلاً من ذلك هو مسألة الإسلام وعلاقته بالتراث الثقافي، والتحول نحو الثقافة كنص، ومن شأن هذا أن يؤدي إلى تعزيز النقد الأدبي، مصحوباً بقبول مكثف للنظرية النقدية الفرنسية خلال الثمانينيات.

وبطريقة ما، ما يلج صفحات "مواقف" في هذه الحقبة هو، دفعة واحدة، ماهوية معينة للخطاب الثقافي، إلى جانب أزمة التمثيل وعدم اليقين إزاء أي سرد جامع. وفي هذه المفارقة على وجه التحديد، يظهر العام 1979 كزخم عالمي: ففي الوقت نفسه، تشهد أوروبا عودة الدين إلى السياسة (البابا في بولندا)، ولا يزال يسارها خائباً، و"متعة النص" تنتصر على "موت المؤلف" (كلاهما رولان بارت).

تظهر "مواقف" موقعًا لبعض النقاشات التي من شأنها أن تجعل العام 1979 لحظة حاسمة في تاريخ الفكر العربي. ففي الوقت نفسه، بدا العام 1979 "مهماً" لمسار المجلة، وهو العام الذي لم يستهل تصدعاً جذرياً بل تحولاً تدريجياً وجزئياً. وإلى جانب الانقطاعات التي أبرزتها في هذه القراءة، كانت ثمّة أيضاً استمرارية قوية، وبعض الخصائص الأساسية التي لم تتغير بعد العام 1979، وأبرزها وظيفة "مواقف" كمدخل إلى المشهد الأدبي العربي للشعراء الشباب بسبب موقع أدونيس. يعد سرد التغيير في ما يتعلق بالدوريات الثقافية تحدياً، خاصة وأن الدورية الثقافية - كموضوع متسلسل - لا تخضع للتغيير فحسب، بل تنتج سرديات التغيير نفسها طوال الوقت، وقد قدّمت "مواقف" مساهمة مهمة في إنتاج سنوات بعينها باعتبارها "نقاط تحول"- لكن هذه القراءة تحتاج وقفة أطول.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها