الجمعة 2023/03/24

آخر تحديث: 12:44 (بيروت)

"أوراق" وديع حمدان... من محسن إبراهيم إلى دومينيك شوفالييه

الجمعة 2023/03/24
increase حجم الخط decrease
في كتابه "أوراق من دفتر العمر/ سيرة مناضل يساري"(دار سائر المشرق- بيروت) يسجّل الجنوبي والعاملي والبيروتي والشيوعي (السابق) والمشاء، وديع حمدان، أفكاره العامة ومشاعره التي قادته إلى كتابة سيرة ذاتية "تجمع ما بين الشخصي والعامّ"، و"كلمة السرّ في هذا الكتاب" كما يقول "هي إظهار الحبّ أو المحبّة للحياة ولمن كتبتُ عنهم، وابداء القناعات الراسخة اتجاه القضايا التي أبديتُ رأيي فيها"، وهو يلعن "الحرب والقتل والعنف، والتعصب الأعمى". 

ومآل سيرة وديع حمدان هو سيرة هذا البلد وتحولاته وأحواله وأحلامه وخساراته. فالكاتب أو المناضل وصاحب الأوراق ينطلق في ورقته الأولى من والدته ابنة أحد وجهاء في قرى قضاء صيدا، التي تقدّم لخطبتها أول مالك سيارة عمومية في المنطقة القريبة من صيدا، لكنها رفضته، واختارتْ والد الكاتب الفقير "الذي لم يكن يملك شروى نقير"، والوالد أو الأب "كان بيروتياً في تذكرة الهوية قبل أن تطأ قدمه بيروت"، نقل سجل نفوس إلى دائرة الباشورة، مثل كثير من الجنوبيين بطلب من الزعيم الشيعي آنذاك رشيد بيضون لـ"حشد مقترعين له في الانتخابات النيابية". والكاتب المولود في عين المريسة، عاش جزءاً من طفولته على الساحل البيروتي، ما بين النورماندي سابقاً حتى الروشة "كان ذلك قبل أن تخرّب المنطقة ويضربها تسونامي الباطون، بطمر جزء من البحر وبناء اوتوستراد للسيارات عليه، وتلويثه بالمياه المتبذلة". وقبل منتصف خمسينات القرن العشرين، انتقل والده من عمله إلى قرب ساحة النجمة، في الوسط التجاري من بيروت، استأجر مخزناً صغيراً داخل مبنى تابع لوقف كنيسة الروم الكاثوليك، يضع فيه بضاعه يعرضها من الصباح إلى المساء على حائط مدخل المبنى. هذا العمل اصطلح على تسميته بـ"البسطة".

بيروت الوسط التجاري تلك الأيام، تختلف كثيراً عما آلت إليه بعد الحرب، وإعادة اعمارها واقتلاع ذاكرتها عنها، بإلغاء معالمها الشعبية والتاريخية. واستطاع والد وديع حمدان أن يوسّع أعماله بالانتقال الى سوق أياس قرب باب إدريس، ويترك البسطة المتحرّكة، وأن يفتح محلاً ثابتاً بالشراكة مع شخص آخر، ولاحقاً اشترى قطعة أرض صغيرة، في الطيونة على طريق صيدا القديمة، وشيّد طابقاً ارضياً أولاً، وأكمله بطوابق أخرى لاحقاً. حتى أنه خصّص منذ البداية مكاناً للمصعد الكهربائي، الذي لم يتم تركيبه إلا بعد مرور أربعين سنة على تشييد العمارة، التي أنجزتْ على دفعات، قبل حرب الـ75 وبعدها، واكتملت على 11 طابقاً حافلة بمخالفات بناء عديدة، منعت افرازها إلى شقق في الدوائر العقارية. 

وعاشت عائلة حمدان مع سكان أو جيران كانوا "عوالم متجاورة متساكنة غير مندمجة"، ينظرون إلى بعضهم البعض "بعين الريبة والحذر"، ومع مرور الزمن أخذ يتناقص الوجود المسيحي في الجهة الغربية لمنطقة الطيونة، ليس لأسباب طائفية بداية، إنما بداعي الاستثمار وبيع الأراضي وانشاء الأبنية وازدياد الطلب على السكن للقادمين من الأرياف. و"أحكم الطوق على بيت الستّ ليظا(ليزا) المسيحي وأصبح محاصراً من المسليمن من كلّ جهة"... وعدا ذلك "كانت البساتين المرزوعة بأشجار الفاكهة المختلفة، وعلى الاخص الحمضيات، تغطي مساحة كبيرة من الضاحية الجنوبية، التي كانت لنا بمثابة بستان كبير... والتي تحولت لاحقاً إلى تسونامي الاسمنت تشبه مقلعاً بشعاً للحجارة". من يعرف الضاحية قبل الحرب يدرك حجم الزلزال الكبير الذي أصاب لبنان.

وتتشعّب حياة "المناضل اليساري" وأوراقه، بين المراهقة والحبّ والتمرّد وبساتين الضاحية وربوع قريته، وهو أتى باكراً إلى العمل الحزبي، في مرحلة الستينات وأحلامها وأفكارها الكبيرة.

فبعد مشاركته في اجتماعات "نضالية" أصبح مناصراً للقضية الفلسطينية وشيوعياً، "لقد اعتقدنا ببراءة، إذا لم نقل سذاجة، بأننا وجدنا البلسم الشافي لمشاكل بلدنا ومجتمعنا! من خلال ما يطرحه البيان الشيوعي. الحلُّ السحري هو في بناء الاشتراكية!". ولم يمض وقت طويل على انتسابه إلى التنظيم الماركسي اللينيني، حتى حُوِّل الى فرع الطلاب الثانويين في التنظيم، مع المشاركة في التظاهرات، وكان "النضال" بالتوازي مع السفر واكمال الدراسة، "لم أكمل دراستي في فرنسا، السبب الأساسي كان عدم انتظام التحويل المالي من الأهل. والدي كان يفضّل الاستثمار في شراء الأراضي وبناء الشقق، بدلاً من الانفاق على تعليم ابنائه". والشاب الذي نشط في اليسار الجديد والتواصل مع المجموعات اليسارية، يروي أنه في 13 نيسان 1975 كان في نزهة نظمتها لجان العمل الطلابي، التابعة لمنظمة العمل الشيوعي، رحلة الى بحيرة القرعون في البقاع. شباب وصبايا في عمر الورود والمراهقة، يخترعون المناسبات للاختلاء ببعضهم البعض، يتبادلون المشاعر والعواطف، يقول حمدان "ما سبق من مقدمة رومنطيقية، ليس مقصوداً منها، التعبير عن شغفي وحبي للطبيعة والحياة فحسب! إنما المقصود منها اجراء مقارنة لتجربة معاشة، بين وجهي حياة ممكنة. في ذلك التاريخ من الزمن في لبنان، أي 13 نيسان من العام 1975 والذي انطبع في ذاكرة اللبنانيين بالدم. كان هناك امكان لوجه حياة أن تستمر، ملؤها الحب والفرح، مثلما عشناها في رحلة القرعون"، ولكن... 

وخلال الحرب خسر وديع حمدان عدداً من أخوته، بين الذي سقط بقناص أو الذي سقط بانفجار سيارة مفخخة أو الذي أدمن الكحول بسبب اليأس. فبعد سقوط أول شقيق له، يقول حمدان "تبادر إلى ذهني احساسٌ بالذنب، من أن أكون مسؤولاً عن موت أخي، بصفتي أكبر منه في العمر، وكان يسير على خطاي في الالتزام والنضال السياسي". ويضيف: "وكي لا أجلد نفسي، بإحساس الذنب هذا، راجعتُ أفكاري، فوجدتُ أن معظم اخوتي كانوا منخرطين في النضال السياسي والعسكري، من دون تشجيع أو طلب مني. إنما طبيعة الانقسام وشدّة الصراع والتعبئة في البلد، هي التي كانت تدفع الشباب إلى بالوع الحرب المميتة".

وفي خضم نضاله في باريس، تعرّف حمدان على الباحث الفرنسي دومينيك شوفالييه، من خلال الشاعر عيسى مخلوف، وكان يسعى الى دراسة الماجستير، عرض على شوفالييه رغبته بأن يكون موضوع دراسته لشهادة الدبلوم في الدراسات المعمقة أو الماجستير في التاريخ، عن الهجرة والاغتراب في لبنان. لكن شوفالييه ما إن عرف أن حمدان من الطائفة الشيعية، وهو الضليع بالتركيب الطائفي في لبنان، لم يعر أي انتباه، لرغبته في دراسة الاغتراب في لبنان، فطرح عليه موضوعاً بديلاً، يرتبط بالوضع الشيعي، وتحديداً طلب منه أن يدرس، انعكاس صورة الشيعة في الصحافة الفرنسية، تبعاً لأحداث الثورة في إيران والأوضاع المتفجرة في لبنان، وذلك في الفترة 1978 و1984...

يورد حمدان جانباً من علاقته بمنظمة العمل الشيوعي، التي كانت في الوسط السياسي تعتبر "جماعة محسن ابراهيم"، حتى داخل المنظمة كما يقال "إن دور الرفيق محسن هو أكبر من التنظيم". وفي بداية الحرب أخذت تنقلبُ المهام في المنظمة، من عمل شعبي ونقابي، إلى عمل عسكري وإدارة علاقات سياسية، ترتبط بعمل الحركة الوطنية، بالصلة مع المقاومة الفلسطينية، ويقول بعد مرور ثلاثين سنة على استقالتي من المنظمة، أقف أمام الموضوعات التي كانت سبباً بدفعي إلى الاستقالة، واجري محاكمة لها في ضوء المتغيّرات التي أصابت المواقف وأوضاع المنظمة. في طليعة هذه المتغيّرات، يأتي الموقف المهمّ، الذي أعلنه الرفيق محسن ابراهيم في مناسبة تأبين الشهيد جورج حاوي، بعد مرور أربعين يوماً على اغتياله في حزيران من العام 2005. إذ أعلن محسن ابراهيم، نقداً ذاتياً على تحميل لبنان ما يفوق طاقته، بدعم من المقاومة الفلسطينية. وفي الكتابات بمناسبة الذكرى الثانية لوفاة محسن ابراهيم، "الكل توقف عند جرأة النقد الذاتي والمراجعة، التي قام بها الرفيق محسن ومزاياه، لكن جرى تحاشي التوسّع، في المسؤولية والكلفة الباهظة التي دفعها لبنان، وما زال يدفعها عن "الأخطاء القاتلة" التي شاركنا فيها مع غيرنا".

وحمدان الذي غادر العمل الحزبي، منظمة العمل الشيوعي، ثم اليسار الديموقراطي، معترضاً على غياب الديموقراطية وتقديس الفرد، أغرم بالطبيعة، ومشى ويمشي لبنان من شماله إلى جنوبه، من البقاع إلى صنين. في أوراقه يتشعب في سياقات مختلفة، من كتاباته عن شخصيات يعرفها، إلى رحلاته في الطبيعة، وصولاً إلى الحب والزواج والأبناء والأصدقاء..
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها