لا شك في أن تاريخ الفن المصري والعربي فيه العديد من الصفحات التي ما زالت مطوية، أو على الأقل لم تُقرأ على النحو الذي يليق بها. واحدة من تلك الصفحات تحمل عنواناً عريضاً اسمه الممثلة نجوى سالم، إحدى بطلات فرقة نجيب الريحاني المسرحية والتي رحلت عن الدنيا في 19 آذار/مارس1987 وليس أي تاريخ آخر تذكره المصادر المختلفة.
شأنها شأن معظم أبناء الطائفة اليهودية في مصر، نشأت نظيرة موسى شحادة –وهذا اسمها الأصلي- في منطقة غمرة في حي الظاهر بالقاهرة، وبالتحديد في المنزل الرقم 576 شارع بور سعيد الذي يقسم الحي العتيق إلى قسمين. منزل متواضع كان حديث البناء حينما استأجره الأب اللبناني حينما تزوج من الأسبانية اليهودية والدة نظيرة (تذكر بعض المصادر أنها يونانية) التي أنجبت في هذا البيت ولدين آخرين (شارل ويوسف) إلى جانب الفتاة الوحيدة التي كانوا يدللونها باسم "نينات". وعن سنة ميلادها، هناك ثلاثة آراء، أولها أنها من مواليد العام 1925، والثاني العام 1933، أما هي فلم تذكر عاماً محدداً لمولدها وإن ذكرت في معرض حديثها عن تعارفها على نجيب الريحاني أنه كان العام 1942 وقتما كانت في الثانية عشرة من عمرها، وعليه فهي تعتبر نفسها من مواليد العام 1930....
لم تعش نظيرة طفولة هانئة بسبب ضيق ذات اليد، إذ كان الوالد يعمل إسكافياً بسيطاً، ولذلك قرر عدم استكمال تعليم ابنته بعد المرحلة الابتدائية مكتفياً بتعليم الولدين على غير رغبة الأم التي كانت تود وصول ابنتها إلى مرحلة متقدّمة في التعليم.
لكن شيئاً آخر حدث في هذه الأثناء، عوّض الطفلة الصغيرة عن انقطاعها عن التعليم، فقد تلقى والد نظيرة دعوة من جاره متعهد الحفلات "فيتسايون" لحضور إحدى مسرحيات نجيب الريحاني، فقرر الأب اصطحاب ابنته معه حتى يتمكّن الشقيقان من التركيز في تحصيل دروسهما، وحدث أن انبهرت الفتاة ذات الاثني عشر ربيعاً بالعرض وبأداء الممثلين، وأصرّت في تلك الليلة على الصعود خلف الكواليس ومصافحة الريحاني، وهو ما حققه لها الوالد بمساعدة جاره المتعهّد. وبمجرّد أن رأت نظيرة الممثل الكبير، طلبت منه العمل معه في التمثيل، فضحك الرجل وقال لها إنها ما زالت صغيرة، وأنه يعدها بضمها إلى فرقته عندما تكبر وتصبح شابة جميلة.
ومنذ تلك الليلة، لم يعد يشغل بال نظيرة سوى التمثيل والعمل مع الريحاني، حتى أنها استغلت بعد أسابيع، انشغال والدتها، واستعارت فستانها وحذاءها ووضعت الكثير من المساحيق على وجهها، وراحت تقابل الريحاني من جديد في المسرح، وقالت له: "شفت أنا كبرت بسرعة إزاي؟".. فضحك الرجل وأعجب بحيلتها وخفّة ظلها والأهم إصرارها على العمل بالفن، وقرر إلحاقها بالفرقة، لكن بشرطين: الأول موافقة الوالد، وهو ما حدث بعد إلحاح من جانبها، والآخر أن تعمل من دون أجرٍ لأشهر حتى يتأكد من ملاءمتها للتمثيل، فقبلت نظيرة حباً في الفن وفي الريحاني، وبعد فترة تحدّد لها راتب شهري قدره أربعة جنيهات، زيدَت مع مرور الوقت إلى خمسة وعشرين، بل إنه كان يصل في بعض الأشهر إلى خمسين أو ستين جنيهاً بفضل ما كان يمنحه الريحاني لها من جيبه الخاص مكافأة لها على تميزها وتفانيها في العمل.
(نجوى سالم على المسرح مع الممثل أمين الهندي)
وأخذ الريحاني يزيد من مساحة أدوار نجوى ويعمل على تنمية موهبتها ورسم شخصيتها الفنية حتى أنه فاجأ الجميع بإسناد دور البطولة النسائية لها في مسرحية "حسن ومرقص وكوهين" وقيل في حينه إنّ الرجل وقع في غرام الممثلة الشابة، وأنه عرض عليها الزواج لكنها رفضت رغم تعلقها به. ولا أظنّ أن هذه الرواية صحيحة لسبب بسيط أن الريحاني مسيحي الديانة كان مرتبطاً بزوجته بديعة مصابني في مصر، فضلاً عن بعض المشكلات التي تتعلق باختلاف ديانته مع ديانة نجوى سالم، خصوصاً أنها قالت للصحافي عدلي فهيم في مجلة "روز اليوسف" في 21/10/1963 إن الريحاني كان نعم الأخ والصديق والمعلم، وأنه لو امتد به العمر لصنع منها شيئاً عظيماً. لذلك كانت وفاته صدمة كبرى لها، فظلت طوال عامين تزور قبره، ورفضت وقتاً طويلاً خلع الثوب الأسود، وفكرت في اعتزال التمثيل، واعتكفت في بيتها إلى أن أتاها بديع خيري ذات مساء في منزلها بغمرة، وأخذها من يدها إلى المسرح حيث كانت الفرقة كلها مجتمعة، واتفقوا على أن أفضل تخليد لذكرى الرجل العظيم هو أن تظل أنوار مسرحه مضاءة دائماً وتستمر الفرقة التي تحمل اسمه تقدّم عروضها ورسالته التي عاش من أجلها.
البيجاما الحمراء
واستمرت نجوى سالم كإحدى بطلات فرقة الريحاني حتى مطلع الستينيات، إلى أن قررت ترك الفرقة والعمل مع بعض الفرق الخاصة وفرقة مسرح التلفزيون، وشاركت في أكثر من مسرحية ناجحة مثل: البيجاما الحمراء، لوكاندة الفردوس، أصل وصورة، وغيرها. ومع بداية السبعينيات، قررت نجوى سالم تكوين فرقة مسرحية تحمل اسمها وتقدم عروضها في مسرح معهد الموسيقى بشارع رمسيس وسط القاهرة، وقدمت الفرقة عروضاً عديدة، أشهرها: "موزة وثلاث سكاكين" و"حاجة تلخبط". لكن التجربة أثبتت فشلها إدارياً، فبقيت نجوى في بيتها تستجدي أي فرصة للعودة إلى المسرح، وحتى بعدما عُينت عضوة في المسرح القومي لم يستعن بها في أي عمل.
وعلى مستوى السينما لم تكن لنجوى سالم إسهامات كبيرة بسبب طبيعة أدوارها النمطية التي حبسها فيها المخرجون، بين الفتاة الدلوعة أو البلهاء، وهو إرث مسرحي نقلته نجوى سالم معها إلى السينما وألح السينمائيون على تقديمها في هذا الإطار، ومن أشهر أعمالها السينمائية: الروح والجسد، فايق ورايق، الأزواج والصيف، ملك البترول، حياة عازب، جواز في خطر، القبلة الأخيرة، و.. حسن ومرقس وكوهين إخراج فؤاد الجزايرلي العام 1954 الذي يعتبر أهم أعمالها السينمائية على الإطلاق...
إسلامها.. وزواجها السرّي
وعن ظروف وملابسات إسلامها، لم تتوافر أية معلومات مكتوبة، بخلاف أنه تم العام 1960، غير أن الممثلة الراحلة سعاد حسين، عضو فرقة الريحاني، قالت لي في حوار شخصي أن الفرقة كانت مثالاً للتسامح الديني، فكانت تضم المسلمين مثل بديع خيري، والمسيحيين مثل نجيب الريحاني وستيفان روستي، واليهود مثل نجوى سالم، وأنهم كانوا يعيشون جميعاً في سلام غير معنيين بديانة الآخر، وأن إسلام نجوى تحديداً حينما حدث، كان طبيعيا ومتوقعاً، فقد كانت قريبة جدا من عادات وطقوس المسلمين، ولم يجبرها أحد عليه أو تعرضت لضغوط معينة بسبب هجرة اليهود من مصر في أعقاب حربي 1948 و1956. وقال زوجها الناقد عبد الفتاح البارودي إنها، ومنذ أن أعلنت إسلامها العام 1960، وهي تصوم وتصلي وتزكي كما يفعل المسلم صحيح الدين، كما كانت تحمل المصحف معها في كل مكان تذهب إليه، وأن أكثر شيء جذبه إليها حين تزوجها العام 1970 هو تديّنها واستقامتها وحرصها على أداء العبادات، مضيفاً أنها قبل إسلامها كانت تذبح عجلاً في الليلة الختامية لمولد السيدة زينب، كما كانت حريصة على زيارة كنيسة سانت تريز لإيقاد الشموع، إلى أن اختارت الإسلام ديناً لها.
ولم تكن حياة نجوى سالم مستقرة على المستوى النفسي، فقد حاولت الانتحار أكثر من مرة، أصعبها حينما ابتلعت عددا كبيراً من أقراص الأسبرين في أعقاب موت والدتها، ودخلت على أثرها مستشفى بهمن للأمراض النفسية في ضاحية حلوان، كما كانت لها محاولة أخرى نتيجة الاكتئاب وإحساسها بإنها تعيش في مأساة بسبب عدم استعانة المخرجين بها، ولم يكن يخفف عنها سوى وجود الناقد عبد الفتاح البارودي بجوارها والذي كشف بعد رحيلها عن زواجهما السري الذي استمر 17 عاماً.
المجهود الحربي
وعن علاقتها بزملائها، فقد عُرفت عنها صداقتها الوطيدة بأهل الفن ووفائها لهم وحرصها الدائم على السؤال عنهم، خصوصاً الفنانة ماري منيب التي كانت تعتبرها بمثابة والدتها، وحينما اشتدت الأزمات على الفنان عبد الفتاح القصري في سنواته الأخيرة، ضربت نجوى سالم المثل في الوفاء لزميلها، وخاضت معه رحلة تنقله بين أكثر من مستشفى، لا سيما بعدما فقد بصره وذاكرته وتنكّر له أقرب الأقربين. أما عن دورها الوطني، فقد حرصت نجوى سالم على عرض مسرحياتها على الجبهة للترفيه عن الجنود أثناء حرب الاستنزاف بعد هزيمة 1967، كما أشرفت على بعض الحفلات الغنائية لصالح المجهود الحربي والتسرية عن الجنود، وكانت تخصص عشرين مقعداً يومياً في مسرحها بالقاهرة للمحاربين القدامى، وبعد حرب 1973 كانت تستقبل في مسرحها يومياً سبعين ضابطاً وجندياً من أبطال النصر وتقدم لهم التحية في نهاية كل عرض. وإزاء هذا كله، منحها قائد الجبهة في السويس درع القوات المسلحة تقديراً لجهودها، وكرّمها الرئيس أنور السادات في عيد الفن العام 1978 فتبرعت بمئتي جنيه من قيمة التكريم لصالح "مشروع الوفاء والأمل" الخاص بمصابي حرب أكتوبر.
هكذا، كانت نجوى سالم مصرية أصيلة ولها دورها الوطني. وحاول اليهود كعادتهم التشكيك في وطنيتها، فقد كتب الصحافي والمخرج الإسرائيلي إيال ساجي بيزاوي، في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية العام 2015 مقالاً تحت عنوان "رجوعاً إلى العصر الذهبي أين اختفي جميع اليهود الذين نجحوا كفنانين في البلدان العربية؟"، وترجمه إلى العربية نائل الطوخي. وادعى بيزاوي أن إيلي، ابن شقيق نجوى سالم، المقيم في منطقة أشدود بإسرائيل، أبدى انزعاجه من أن المصريين يقولون إن الممثلة المعروفة قد اعتنقت الإسلام، ويضيف كاتب المقال أنه تأكد من كارمن وينشتاين، التى كانت رئيسة الطائفة اليهودية في مصر، من أن نجوى سالم ماتت ودفنت كيهودية! والأرجح أن هذا غير صحيح، وفقاً لكل الشواهد السابقة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها