الأحد 2023/03/19

آخر تحديث: 08:34 (بيروت)

عن أدونيس و«السرديّة الدينيّة المكبِّلة»

الأحد 2023/03/19
عن أدونيس و«السرديّة الدينيّة المكبِّلة»
أدونيس «الدين حاجة إنسانيّة، ويجب احترامها"
increase حجم الخط decrease
في حوار أجراه محمّد القزّاز مع أدونيس لجريدة الأهرام المصريّة نُشر يوم 17 آذار/ مارس، ينتقد الشاعر، الذي بلغ الثالثة والتسعين من عمره، ما يسمّيه «السرديّة الدينيّة المكبّلة». إنّ قراءةً متسرّعةً لفكرة أدونيس هذه ربّما توحي بأنّه ينحى باللائمة على الدين من حيث هو علاقة بين الله والإنسان الفرد. لكنّ الشاعر يؤكّد أنّ «الدين حاجة إنسانيّة، ويجب احترامها». ما يؤرق أدونيس في السرديّة الدينيّة هي أنّها تغلّب الجمع، أو الأمّة، على الذاتيّة: «لا يمكن النجاح أبداً على فكرة تقوم جوهريّاً على محو الذات، وثقافتنا قائمة على محو الذات، وقائمة على الجمع وعلى الأمّة، وأنت كفرد في أمّة لا رأي لك». ويرى الشاعر، في هذا الصدد، أنّ الإبداع عمليّة مخاض فرديّ. لذا، لا بدّ من تثمين الفرد المهدّد بالجماعة واستعادته: «الأمّة لا تنتج قصيدة، الفرد هو الذى ينتج قصيدة، الذات (؟) والأمّة لا تنتجان لوحة، الفنّان هو الذي ينتج لوحة، الأمّة لا تبدع سيّارة، الفرد هو الذى يبدع سيّارة». 

إنّ أولى الملاحظات التي يمكن إبداؤها على كلام أدونيس هذا هي أنّ سياقه المباشر هو مفهوم الأمّة في الإسلام سواء من حيث المقاربة النظريّة أو بالنظر إلى الممارسة. لا غرو في ذلك، إذ من الطبيعيّ أن يكون السياق الذي يحيلنا عليه الشاعر هو الإسلام، لكون الأخير هو المنظومة الدينيّة الأعمق تأثيراً في سيكولوجيا الشعوب التي تعيش في الفضاء الثقافيّ العربيّ.

لكنّ جدليّة الجماعة والفرد ليست محصورةً بالإسلام. فالمسيحيّة تعرفها أيضاً، على قدر ما تشكّل الكنيسة جسماً جماعيّاً يستطيع أن يحتضن مواهب الأشخاص الأفراد وإبداعاتهم، لكنّه قادر أيضاً على تهميشهم وسحقهم بحجّة صون نصاعة العقيدة أو المحافظة على سلامة الجسم ككلّ. هذه الآليّة، التي تغلّب منطق الجماعة الساعية إلى حماية ذاتها على منطق الفرد، فكّكها إنجيل يوحنّا حين وضع على لسان رئيس الكهنة قيافا قبيل صلب يسوع القول الشهير: «خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمّة كلّها» (50/11). كاتب الإنجيل، إذاً، يلفت قرّاءه إلى خطورة التضحية بالفرد على مذبح الجماعة، وذلك عبر عمليّة إلغاء للذات الفرديّة هدفها أن تستعيد الجماعة استقرارها الذي عكّره لبرهة صوت فرديّ غرّد خارج سربه.


هذه الملاحظة تفضي بنا إلى سؤال يصعب تحاشيه: إلى أيّ مدى تسوغ المقارنة بين الكنيسة والأمّة الإسلاميّة؟ لا ريب في أنّ قيام الإصلاح البروتستانتيّ إبّان مطلع القرن السادس عشر فكّك إطلاقيّة الكنيسة كما كان يقول بها اللاهوت السابق لحركة الإصلاح، وحدا الكنائس، ولا سيّما في الغرب، على مراجعة هويّتها الكليانيّة شيئاً فشيئاً، وسلوك سبيل التحوّل إلى جامعة روحيّة تتوخّى الموازنة بين الفرديّ والجمعيّ. وعلى الرغم من أنّ الكنائس حتّى اليوم كثيراً ما تفشل في تحقيق هذا التوازن، إلّا أنّها أضحت على وجه العموم أكثر انفتاحاً على ضرورة الإصغاء إلى الأفراد لكونهم، كما أشار إليه أدونيس، موطن الإبداع وصانعي التحوّلات الكبرى. هل يحتاج الإسلام، بموجب هذا المنطق، إلى حركة إصلاحيّة تحاكي بروتستانتيّة القرن السادس عشر في عمق مساءلتها الأفكار الموروثة؟ ربّما، علماً بأنّ منطق الإصلاح ليس غريباً عن ديناميّات التحوّل في الإسلام، كما يشهد عليها مثلاً فكر الشيخ محمّد عبده. لكنّ ما يبدو الإسلام في أمسّ الحاجة إليه اليوم هو تأصيل لمفهوم الفرد من داخل الدين بحيث تمسي الإرهاصات التي نعثر عليها في القرآن الكريم والتراث، من أنّ الإيمان والتوبة مثلاً قضيّتان فرديّتان، منطلقاً لمقاربة لاهوتيّة تستردّ الفرد وتعلي من شأنه، فلا يذوب في الجماعة أو يتحوّل إلى مجرّد قطرة في خضمّها. إنّ الجماعة التي تختزل الفرد، أو تبتلعه، أو تسعى إلى تدجينه، تضمن استمراريّة وجودها ولا شكّ. لكنّها، في الوقت ذاته، تقامر بنوعيّة هذا الوجود عبر تهميش الأفراد وقمع طاقاتهم الإبداعيّة، فتضيّع على ذاتها فرصة أن تصبح جماعةً أكثر إنسانيّةً وأقلّ امتثالاُ لوهم الأمّة الجوهرانيّة التي لا تتبدّل.
 
تستطيع ألّا توافق على كثير من آراء أدونيس. لكنّك مدعوّ إلى الإصغاء إليه هو الشاعر الفرد الذي لا يزال يقف حارساً لمنهج فكريّ لم يفقد شيئاً من لمعانه: منهج يسائل التراث وينتقده سعياً إلى مزيد من الفهم.. ومزيد من الحقيقة.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها