الأحد 2023/03/19

آخر تحديث: 10:39 (بيروت)

"روّاد" الحداثة اللبنانية في معرض إستعاديّ.. سحر الطبيعة والضيعة

الأحد 2023/03/19
increase حجم الخط decrease
 
أقيمت في بيروت، خلال فترات سابقة، معارض ذات طابع إستعادي وتضمّنت نتاجاً لفنانين لبنانيين ممن يُعتبرون من جيل الروّاد. المعرض الذي نحن الآن في صدده، والذي حمل عنوان "روّاد"، يدخل ضمن هذه الفئة، وهو يقدّم أعمالاً لأربعة لفنانين ينتمون إلى تلك الحقبة التي بدأت تظهر فيها بوادر الأسلوب المحلّي الحداثي، في النصف الأول من القرن العشرين، قبل أن يُطلق فنانون آخرون تيارات الحداثة الفنية اللبنانية الأكثر معاصرة، وهي التي ما زال يُعمل عليها حتى اللحظة الحاضرة. 


يُقام المعرض في "قاعة الشيخ زايد"، في الجامعة اللبنانية الأميركية، ويضم أعمالاً لقيصر الجميل (1898- 1958)، مصطفى فروخ (1901- 1957)، عمر الأنسي (1901- 1969) وصليبا الدويهي (1912- 1994). نظم المعرض الدكتور طوني كرم، وذلك بمساعدة مجموعة من الفنانين. ولا شك في أن الأمر تطلّب جهداً من أجل جمع الأعمال في معرض واحد، وهي التي توجد في أماكن متفرّقة. يكتسب المعرض أهمية لكونه يأتي في مرحلة أصبحت فيها تيارات الحداثة الفنية مدار بحث وجدال، وخصوصاً أن بعضها إتخذ وجهاً "فوقياً"، بحيث يبان للكثيرين أن الفن التشكيلي يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى فن نخبوي، ليس في وسع غالبية هواة الفن تذوّقه، والإحاطة بمفاهيمه، نظراً لتفاوت مستوى الثقافة الفنية في شكل عام. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يتسم المعرض بأهمية تاريخية، ويتيح للجمهور الإطلاع على بوادر الحداثة الفنية اللبنانية. إضافة إلى ذلك، فإن الأعمال المعروضة تنتمي إلى مجموعات خاصة، وليس في مقدور الناس الإطلاع عليها في شكل مباشر، وليس من خلال الصور الفوتوغرافية، إلاّ من خلال تظاهرات من هذا النوع.


وعلى هامش الحديث عن جيل الروّاد، الذين حملوا على عاتقهم مهمة المشاركة في تأسيس الحركة الفنية اللبنانية. لا بد من أن نذكر، في هذه المناسبة، أن محترف حبيب سرور (1860- 1938)، كان محجّة للرسامين، وكان سرور أول من أسس مدرسة أعطت الحركة الفنية في لبنان أسماءها البارزة، ومن ضمنهم "الرواد" الذين ورد ذكرهم، بالإضافة إلى رشيد وهبي (1917- 1993). أخذ هؤلاء عن أستاذهم قوّة الرسم، والبراعة في تحقيق الشكل من خلال الخط قبل الشروع في اللون، فضلاً عن تنوع الموضوعات المطروحة. ولم تقتصر تأثيرات حبيب سرور (الذي يغيب عن المعرض الحالي لأسباب تقنية) على تلامذته فحسب، بل عمّت جيلاً بكامله، إذ إن طبيعته الإستكشافية جعلت موضوعاته تغطي مختلف نواحي الحياة اللبنانية بعاداتها وتقاليدها.
(سيدتان - قيصر الجميل)
يُعتبر قيصر الجميّل، المولود في عين التفاحة (المتن الشمالي)، والذي نرى له في المعرض لوحة "كرنفال" ولوحة "سيدتان"، مع أعمال أخرى، من الجيل الثاني من الرسامين اللبنانيين الحداثيين. مثّل الجميّل عملية الانتقال من نمط الرسوم الشخصية الأكاديمية، التي كانت تتم عادة تلبية لطلب الزبائن، وهو الأمر الذي كان سائداً لدى أسلافه، إلى رسم المناظر الطبيعية والعراة والطبيعة الصامتة. واتسمت أعماله بالتجريب أثناء فترة الدراسة، وقد تدرّب الجميّل على الرسم في محترف الرسام خليل صليبي، في 1927، سافر إلى باريس حيث أمضى ثلاث سنوات لمتابعة تحصيله الفني في أكاديمية جوليان. خلال تلك المرحلة، نشأ لدى الجميّل الاعجاب بأعمال الانطباعي الفرنسي رونوار (1841 ـ 1919).

شملت أعمال الجميّل، إلى جانب اللوحات التشخيصية، عدداً كبيراً من المناظر الطبيعية والطبيعة الصامتة، وذلك عبر مستويات متنوعة من التجريد، وقد مثّل الجميّل الأفق والمناظر الزراعية والعمارة في لبنان، خلال فترة من الزمن أصبحت فيها مناظره الطبيعية أحد العناصر الهامة في تصوير الدولة القومية الناشئة. 
(الحاج يعقوب - مصطفى فروخ)
مصطفى فروخ، الذي نرى له في المعرض، من ضمن أعمال أخرى، لوحتي "الحاج يعقوب" و"منظر من المتن"، هو أحد أشهر الرسامين اللبنانيين، خلّد الطبيعة اللبنانية من خلال أعماله، التي تحوّل بعضها أيقونات وطنية، يتم الإستعانة بها في مناسبات مختلفة. ولد فروخ في بيروت، وسافر إلى روما للدراسة، العام 1924، حيث نال دبلوم الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة، وشارك ببعض أعماله في العاصمة الإيطالية. من ثم سافر إلى باريس في صيف 1926، والتقى بالنحات اللبناني يوسف الحويّك. بعد عودته إلى بيروت، افتتح استديو في سوق أياس انكب فيه على رسوماته وخاصة اللوحات الوطنية في تلك الفترة. ورغم أنّ المحترف كان غرفة صغيرة، إلا أن الرسام استقبل فيها نخبة من المثقفين.

 
إن تربية فروخ الفنية والجمالية على الفنون الكلاسيكية في روما، والدراسة الأكاديمية فيها، حالت بينه وبين تقبل ما يتمخض عنه المجتمع الصناعي في فرنسا، التي زارها عام 1926، كما ذكرنا، من مفاهيم حداثية معاصرة، كانت، كما اعتقد حينذاك، تهشيماً لكل القيم الكلاسيكية السوية، وتعمل على خلق مفاهيم وبنى تأليفية جديدة تعكس واقع النظام الرأسمالي، وحركة العرض والطلب في السوق الفني. توقف في فنه لاحقاً عند حدود الانطباعية، منسجماً مع ذاته ومع إقتناعاته، من دون التعمّد إلى حرق المراحل، كما فعل العديد من الفنانين اللبنانيين الذين استهوتهم تيارات الحداثة، وبالغوا في تقليدها ونقلوها حرفياً إلى حد ما، وذلك بالرغم من فارق التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتاريخ والجغرافيا، (نحن هنا ننقل وجهة نظره من دون مناقشتها). لم يستوعب فروخ تيارات الحداثة الصاخبة آنذاك، فكان أميناً مع نفسه ومع تطوره الذاتي وتطور مجتمعه، وهو الطالع من مجتمع متزمّت لا يفهم اللوحة الواقعية أو الكلاسيكية، فكيف سيتذوق لوحة تكعيبية أو دادئية أو مستقبلية! كان فروخ ابن مجتمعه، وحامل قضية النهضة القومية عبر الفن.
(منظر لبناني - عمر الأنسي)
من ضمن أعمال الفنان المولود في بيروت عمر الأنسي، نرى في المعرض عملين يمثلان مشاهد طبيعية، أحدها لبناني، والآخر يمثل جبل الدروز في سوريا. ومن المعروف أن الأنسي كان فناناً مرهفاً، وقد شكّلت مائياته علامة مميزة في الفن التشكيلي اللبناني. اختار الفنان بلدة ميروبا اللبنانية كي يقضي فيها فصل الصيف، لما في تلك البلدة من معطيات طبيعية تتناسب مع اهتماماته في مجالات الضوء واللون. ولا شك في أن ثمة علاقة وثيقة تجمع ما بينه وبين الطبيعة، هي أشبه بحكاية عشق تذكّرنا بعلاقة الانطباعيين بمحيطهم (مانيه، مونيه، بيسارو، سيزان، سيسلي وسواهم...). وإن كان قد نهل من منابع الانطباعية العالمية، غير أن إنطباعيته كانت ترسخت بأصولها الشرقية، من خلال المشهد الواقعي وتقنية الضربة المائية، أو من النبرة التي تركت في لوحته ما يشبه النوافذ ليدخل الضوء مرتاحاً الى العمل المشغول بمهارة.

هذا الحالة جعلت منه، في أربعينات القرن الماضي، رائد الفن المائي اللبناني بامتياز. وربما تقصد من عزلته (خلال الصيف) مساحة مضيئة وجديدة بعيداً من بيروت العاصمة، سعى الأنسي إلى تأطير المشهد بحسب انطباعيته، معتمداً السماء الزرقاء أو البنفسجية الفاهية مفاتيح للدخول الى جنائنه التشكيلية. كانت الانطباعية متوافقة بدرجة عالية مع الطبيعة اللبنانية، معقودة على تلك الرومنطيقية المتناغمة مع إبداعات شعرية، وكأنها شكّلت يومذاك امتداداً لقصائد الشاعر الياس أبي شبكة وشعراء المهجر قبله.  

استفاد الأنسي من مناخات المرحلة ليزيد من انتاجه الفني السابق (سافر الى الأردن عام 1922 ورسم في صحرائها الغزلان والبدويات لخمس سنوات متواصلة). غير أن طبيعة كسروان الصخرية الجافة أشبعت حلمه وساهمت في ترسيخ تجاربه وأبحاثه في تكريس الفن المائي اللبناني. اختار الأنسي الريف بغية التوحد والعزلة ومحاكاة الجمال البكر. يطل من شرفته على حلم القرية ويومياتها، بعيداً من ضوضاء المدينة بيروت التي يعود اليها شتاءً. نخر فيه المرض لسنتين قبل أن يغمض عينيه صباح 2 حزيران ـ يونيو 1969، على حسرتين: طبيعة لبنان المفعمة بالجمال، وقلب ماري التي أحبها وأخلص لها مثلما فعلت هي. 
(دكان الضيعة- صليبا الدويهي)
صليبا الدويهي، المولود في إهدن، العام 1915، والذي نرى له في المعرض أعمالاً عدّيدة، من ضمنها "مشهد من إهدن" و"دكان الضيعة"، بدأ دراسته في بيروت متتلمذاً على يد حبيب سرور، ثم إلتحق بكلية الفنون الجميلة في باريس، العام 1932، ليعود بعد سنوات أربع إلى بيروت. رسم الدويهي العديد من اللوحات التي كانت جميعها مأخوذة من مدينته إهدن ذات الطبيعة الخلابة...

اللوحتان المذكورتان آنفاً: "مشهد من إهدن" و"دكان الضيعة" تنتميان إلى تلك الفترة، وكان رسم ايضاً اعمالاً تصوّر المعارك التي جرت بين يوسف بك كرم الاهدني وبين الجيش التركي. كُلّف الدويهي بتزيين كنيسة الديمان البطريركية بلوحات جدارية وكان أغلبها طبيعية وأحداث تاريخية. بعد الديمان نزل الى بيروت واتخذ له محترفاً فيها، غير أنه قضى معظم أوقاته خارج المدينة، يصوّر في أحضان الطبيعة. من جملة الأدباء الذين كانوا يترددون عليه الشاعر جورج شحادة، الذي دخل المحترف يوماً وتأمل طويلاً في لوحات الفنان ثم قال له همساً: "يا صليبا، لقد تخطانا العالم، ونحن ما زلنا نروي القصص والأخبار". هذه الملاحظة أثّرت في صليبا وأيقظته على إمكانية الطموح وضرورته من أجل العمل على نهج فني جديد.  

عاش الدويهي هذا الصراع فترة كان خلالها يبحث عن القرار، الى أن سافر الى أميركا، وبعد اطلاعه على كل ما يوجد في المتاحف الحديثة والمعارض الخارجية، أيقن أنه غير قادر على صنع عمل فني قابل للعرض، فانكب على الدرس والمطالعة وعلى العمل ليلاً ونهاراً. اهتم بأعمال العديد من الرسامين أمثال مودريان وأرشيل وغوركي وكليفورد سنيل ومونترفيل وموريس لويس وكينيث لولاند. يوماً بعد يوم كان يتعمق في محاولة التخلص من الأشكال والخطوط، تجنّب الإنجرار إلى أي إتجاه أميركي، بل ترك لنفسه الوقت كي يخط طريقه الخاص، بارتباط مع ذكرياته وثروات ماضيه الروحية، فقد كان يشعر أنه مسؤول عن هذا الماضي.

 

 (*) يستمر المعرض حتى 25 آذار/ مارس في "قاعة الشيخ زايد" في الجامعة اللبنانية الأميركية - LAU
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها