السبت 2023/03/18

آخر تحديث: 11:57 (بيروت)

من الفاتيكان إلى معبد البارثينون

السبت 2023/03/18
increase حجم الخط decrease
تخلّى متحف الفاتيكان رسمياً عن ثلاث قطع نحتية من معبد البارثينون الإغريقي، كانت قد دخلت مجموعته منذ قرنين، ومنحها كـ"هبة مسكونية" للكنيسة اليونانية كي تعود إلى موطنها الأول. وذلك بعدما أعلن البابا فرنسيس، نيّته تقديم هذه الهبة لرئيس أساقفة اليونان، أيرونيموس الثاني، "كدليل ملموس على رغبته الصادقة في السير في طريق الحقيقة المسكوني" يوم زار اليونان وقبرص في كانون الأول 2021.


منذ أيام، عُقد مؤتمر صحافي في قاعة تابعة للقسم الإداري لمتحف الفاتيكان، بحضور رئيس اللجنة البابوية لدولة الفاتيكان الكاردينال فرناندو فيرجيز الزاغا، مديرة متحف الفاتيكان بربارا جاتا، ووزيرة الثقافة اليونانية لينا مندوني، والأب عمانوئيل باباميكروليس ممثلا رئيس أساقفة اليونان أيرونيموس الثاني، ومدير متحف الأكروبوبل نيكوس ستامبوليديس. في هذا المؤتمر، حرص الفاتيكان على التذكير بأنه اقتنى بشكل قانوني هذه القطع النحتية في الماضي، وأنه يهبها اليوم للكنيسة اليونانية تلبية لرغبة قداسة البابا أسقف روما فرنسيس، كما أكّد بأن هذه القطع ستصل إلى اليونان في 24 من الشهر الحالي، لتُسلّم إلى السلطات المعنية في احتفال رسمي خاص.

تعود هذه القطع في الأصل إلى معبد البارثينون الذي يقع فوق هضبة الأكروبول وسط أثينا، والأكروبول هو الأكروبوليس، أي "المدينة المرتفعة"، وهو معبد أثري عظيم الشأن دخل لائحة اليونيسكو للتراث العالمي العام 1987، ويُعتبر من أهم وأشهر المعابد التي شُيّدت في المدن اليونانية القديمة. شُيد هذا المعبد الضخم في عهد إلى بريكليس، السياسي والمصلح الفذّ الذي رعى الفنون على اختلاف انواعها، وكان من أصدقائه النحات فيدياس، والأديبان المسرحيّان أرسطوفانيس وسوفوكليس، وضمّ مباني رئيسية عديدة، أبرزها وأعظمها شأناً البارثينون، أي "مسكن العذارى"، وهو مسكن الآلهة أثينا، ابنة سيّد الآلهة زيوس، وحامية المدينة التي سمّيت باسمها، كما أنها إلهة الحكمة والزراعة ومانحة الزيتون، وُيعدّ عيدها من أعظم الأعياد في بلاد اليونان القديمة.


بحسب المصادر التاريخية، تمّ بناء البارثينون في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، ما بين 447 و432ق.م. وقد صمّم بناءه المهندسان أكتينوس وكاليركراتيس، وقام بتزيينه فيدياس، أعظم النّحاتين اليونانيين القدماء. شُيّد هذا المعبد بالرخام الأبيض المستمد من هضبة بنتليكس المجاورة لمدينة أثينا، وجاء وفقاً لمخطّط مستطيل، طوله 72 متراً، وعرضه 34 متراً، وارتفاعه 18 متراً، ويحوي قاعة مركزية تحيط بها من الجهات الأربع سلسلة من ستة وأربعين عمودًا. تتألّف هذه القاعة من صالتين. ضمّت الصالة الرئيسية في ما مضى تمثالاً ضخمًا يمثّل أثينا، صُنع من الذهب والعاج، بحسب شهادة الجغرافي باوسانياس في القرن الثاني للميلاد. وضمّت الصالة الأخرى "كنز" المدينة، أي الخزينة التي تُحفظ فيها ثروة ما يُعرف بـ"الحلف الديلي"، وهو الاسم التي حملته رابطة من الدول-المدن اليونانية تحت قيادة مدينة أثينا العظمى.


زُيّن البارثينون بمجموعة كبيرة من المنحوتات توزّعت على أجزاء من بنائه. حوى المعبد قوصرتين، والقوصرة مساحة مثلّثة تحتل القسم الأعلى من البناء. حضر مشهد ولادة الإلهة أثينا على القوصرة الشرقية، بينما حضر على القوصرة الغربية، مشهد المعركة بين هذه الإلهة وبين إله البحر بوسيدون، في سبيل السيطرة على مدينة أثينا. كذلك حوى المعبد سلسلة من الألواح المستطيلة اصطفّت فوق الأعمدة، وشكّلت المساحة الخارجية العليا للبناء. في هذه الألواح، سلسلة من المعارك تمثل أربع حروب شهيرة، ثلاث منها مستمدة من الأساطير الإغريقية، والرابعة تجسّد خاتمة حرب طروادة. كذلك، يعلو جدران الصالة الرئيسية المخصصة للإلهة أثينا شريطاً ناتئاً يمتد على شكل إفريز أفقي. في هذا الإفريز، يحضر مشهد جماعي يمثل موكباً يتألف من مجموعات عديدة، تمثل تباعاً الفرسان والمسؤولين والكهنة والوصيفات، ويصوّر هذا الموكب احتفالية مدينة أثينا بشفيعتها وحاميتها. تلك هي حلّة البارثينون النحتية في تأليفها الأصلي، غير أن الجزء الأكبر منها ضاع، وما بقي منها تشتّت، وأغلبه أضحى في المتحف البريطاني منذ مطلع القرن التاسع عشر.


تشكّل القطع الثلاث التي تعود اليوم من الفاتيكان إلى أثينا، عيّنة صغيرة متواضعة من هذه الزينة المؤلّفة من مجموعة كبيرة من الصور والتماثيل المنحوتة والصور الناتئة. تمثل القطعة الأولى رأس حصان ضاع جزء كبير منه، وتمثّل الثانية رأس رجل ملتح، وتمثل الثالثة رأس فتى أمرد. يعود رأس الحصان إلى القوصرة الغربية، وهو رأس واحد من الأحصنة الأربعة التي تقود مركبة أثينا. ويعود رأس الرجل الملتحي على الأرجح إلى أحد الألواح المنقوشة التي تزين الجهة الجنوبية من المعبد. أما رأس الفتى الأمرد، فيعود كما يبدو إلى الإفريز الذي يزين الصالة المقدّسة، ويمثّل أحد المشاركين في الموكب الاحتفالي. 


من المفارقات المثيرة، يقدّم الفاتيكان اليوم هذه القطع الأثرية إلى الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية كـ"هبة مسكونية"، ويعبّر البابا من خلال هذه الهبة عن "رغبته الصادقة في السير في طريق الحقيقة المسكوني". في الواقع، تعرّض البارثينون للخراب مراراً، ويمكن القول إن تاريخه الطويل يختزل، بشكل ما، تاريخ اليونان القديم والحديث. بدأ هذا الخراب مع صعود المسيحية وتحولها تدريجياً إلى دين دولة، وقد تحقق هذا التحول بشكل تام العام 391 حين تبنّى الإمبراطور تيودوسيوس المسيحية ديناً واحداً وحيداً للإمبراطورية، ومنع سائر الأديان، وأمر بإغلاق كل معابدها. تحوّل البارثينون لكنيسة، وجرّد من حلله، وحلّ وسط القوصرة الشرقية صليب يشهد لهذا التحوّل الذي شكّل الحلقة الأولى في خراب هذا الصرح.


كيف تواصل هذا الخراب على مدى قرون من الزمن؟ وكيف أُعيد احياء البارثينون في الأزمنة الحديثة؟ كيف تشتّت ما بقي من حلل هذا المعبد؟ وكيف دخل الجزء الأكبر ممّا تبقّى منها إلى المتحف البريطاني؟ تستحق هذه الأسئلة إلى وقفة أخرى نستعرض فيها أبرز المحطّات المثيرة التي تختزل تاريخ هذا المعبد المنتصب فوق هضبة الأكروبول منذ القرن الخامس قبل الميلاد. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها