
ورسائل جويس مكتوبة لعينَي نورا فقط، ضمن مراسلات هي مَن بدأها في نوفمبر/تشرين الثاني1909 حين كان جويس مقيماً في دبلن، بينما كانت هي تربي طفليها في "تريستي" في ظل ظروف صعبة... وجويس العاشق، والهائم هنا، أسقط كل الحجب والأطواق وكسر كل الحياء وكل القيود والمحظورات ليكون فاسقاً وداعراً حقيقياً إلى أبعد مدى، إلى ما بعد بعد العشق، فالأمر لا ينحصر في بوح غرامي، بل هو جموح في الفسق والفيتشيات. كان جويس يكتب بأسلوب يجعله يبدو وكأنه "يلقي اعترافاته بلغة أجنبية"، بحسب تعبير شقيقه. يبدو مثل شاعر مجنون يهذي من شدّة حمّى عشقه للحبيبة الغالية والبعيدة... يطلب من زوجته أن تكتب له رسائل مليئة بـ"الكلمات الفاحشة" لأنه يحبّ ذلك. فهي تثيره وتزيده تعلّقاً بها! بمعني آخر، كان يمارس الجنس من خلال الكتابة، الكلمات الفاحشة تجسيد لشخصه الغائب، كانت كلماته تحضر بدلاً عنه. من الكلمات والشطحات البورنوغرافية هنا، نكتشف تباعاً أنها جاءت كمحاولة لقتل الرتابة في العلاقة بين حبيبين فرضت الظروف عليهما الافتراق أو التباعد...
النافل أنه حين قابل جويس نورا، كانت عاملة تنظيف في أحد الفنادق، ووصفها بأنها "روح بسيطة شريفة عاجزة عن الكذب". كان المحيطون بها ينادونها "قاتلة الرجال" لأنها كلّما أحبّت رجلاً مات، وقد استوحى جويس إحدى قصص "أهالي دبلن" من هذه الحكاية. لكن منذ أن التقيا وحتى اليوم الذي فارق فيه جويس الحياة، جمعت الإثنين علاقةٌ استثنائية غير مشروطة ولا تحتكم إلى المعايير الاجتماعية التقليدية في ذلك الوقت، ولم يتزوّجا إلا بعد 27 عاماً من العلاقة بينهما، رغم ما مرّت به من تعقيدات.. هذه الرسائل كما يتبين من مسارها، نبشت عميقاً في دواخل جويس وحيثيات هذه العلاقة ومآزقه النفسية والوجدانية والمالية... يقول في أول الرسائل التي يحملها الكتاب والمؤرخة في 2 ديسمبر 1909: "حبيبتي، لِزام عليَّ، ربّما، أن أتوسل غفرانكِ على الرسالة الغريبة العجيبة التي كتبتها لك في الليلة الماضية. وأنا أكتبها كانت رسالتك مستلقيةً أمامي وعينايَّ مثبتتين، كما هما الآن، على كلمة محدّدة وردتْ فيها. ثمّة شيء داعر وخليع ألمسه بمجرد النظر إليها. وقعها أيضاً يشبه الفعل بحدِّ ذاته... وجيز، وجامح، وشيطاني، ولا رادّ له".
"الرسائل الفاحشة"، كما هي معروفة لدارسي جويس، والتي ما زالت تعتبر فاحشة اليوم، "ليست ايروتيكية في الجزء الأكبر منها"، بتعبير المترجم، إذ إن الصور والمجازات التي اشتملت عليها كانت في غاية الوقاحة والانحطاط، كما أنها طفولية ومكرورة. تقول بريندا مادوكس، إن جويس من رسائله، يميل إلى الاعتقاد، مشاطراً مولي بلوم رأيها في يوليسيس، بأنها ارتكبت لإضفاء بعض الإثارة على الرتابة، وذلك عندما قالت: "أه يا جيمسي! أخرجني من هذا الضجر". لكن الرسائل لها أهميتها ليس لفهم جويس فحسب، بل نورا أيضاً، وشخصيتها ودورها في يوليسيس". عندما قال جويس على لسان مولي بلوم: "سأمزق ملابسي الدخلية وأقحمها في وجهه ليراها أكبر من الدنيا"...
تضيف مادوكس أن جويس أراد من نورا أن تلعب دور العاهرة والبتول في آن معاً. لكن لدى نورا تناقضاتها الخاصة التي تحول دون قدرتها على تحقيق التوازن بين الدورين معاً. اعتقدت أن جويس يتصرف بطفولية، لكنه رجلها وسيّد قدرها. لقد أحبّته واشتهته، لكنها احتقرته لعدم قدرته على إعالة عائلته، وتأمين رزقه ورزقها. لذا كان كلّ منهما حبيس الآخر، الهدية التي اشتراها جويس لنورا لخّصت تبعيته لها: قلادة من مكعبات العاج حفرت عليها عبارة " تعيس هو الحب إذا كان من تحبّه بعيداً عنك"، وهي عبارة من القصيدة التاسعة في "موسيقى الحجرة". عنى جويس كلامه حرفياً عندما ناشدها أن تنقذه من "رداءة العالم وقلبي"! نجته نورا من حرمانه المتخيّل عبر مشاركته الغرق فيه، كما حدث عندما اعترف لها بأمنيته المتمثلة بتقبيلها في مكان ما من جسدها، وليس على فمها، وترك لها أن تخمّن أين. وترى مادوكس أن الكاتب الأعظم الذي أنجبته إيرلندا "اغتنم الفرصة ليدرّب نفسه على التقنيات التي سيستخدمها في كتاباته المستقبلية، عازماً على قول الحقيقة. طالب نفسه، ونورا، بما طلبه فرويد تماماً من مرضاه في فن التحليل النفسي: أن يصيغ كل فكرة، مهما كانت مخجلةً وجالبةً للعار، ومن دون أي خوف أو تردّد، في كلماتٍ واضحة".
وعلى هامش الرسائل نذكر أن رواية "يوليسيس" لجويس، حين صدرت، أحدثت مشكلة مع الرقابة. المسرحي جورج برنارد شو، أطلق على لغة الرواية صفة البذاءة، وقال إن يده لا يمكن أن تخط مثل تلك الكلمات، مع إنه سلّم بأن الرواية تحفة فنية. وعندما علم جويس أن عمته جوزفين رفضت أن تقرأ روايته "يوليسيس"، قال: "إذا كانت روايتي غير صالحة للقراءة، فإن الحياة غير صالحة للعيش"...
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها