الجمعة 2023/03/17

آخر تحديث: 11:05 (بيروت)

هيثم حسين لـ"المدن": بلدي كان مَنفاي الحقيقي.. السجن الكبير

الجمعة 2023/03/17
هيثم حسين لـ"المدن": بلدي كان مَنفاي الحقيقي.. السجن الكبير
لا حدود للعنصرية ولا سقف للأحقاد والكراهيات
increase حجم الخط decrease
بعد سلسلة من الروايات والكتب السردية، اختار الروائي السوري المقيم في بريطانيا، هيثم حسين، أن يتطرّق إلى قضية شائكة ومعقّدة تتعلّق بالعنصرية وصناعتها ومصادرها ونتائجها وناسها وواقعها، وأصدر كتابه "العنصريّ في غربته/ سيرة" عن دار رامينا.
هيثم حسين، الكاتب الكردي الذي لامس العنصرية وعاشها في خضم النظام التوتاليتاري البعثي السوري، من مدينته الصغيرة عامودا شمالي سوريا، إلى لندن التي تعتبر وجهة الحرية لكنها في الوقت نفسه تنتج عنصريات ضد الغرباء والأغيار، مروراً بالكثير من المدن والمجتمعات التي شكّلت محطّات في سيرة حياته، يثير أسئلة محورية عن واقعنا ومصيرنا، حيث يقدّم شهادته على عالم يمضي نحو "إلغاء الألوان البهية التي تجمّله إلى عتمة تهدّد أنواره المتحقّقة عبر تاريخ مديد من الإنجازات الإنسانية". أجرت معه "المدن" هذا الحوار...

- لماذا كتاب "العنصريّ في غربته" الآن؟ ولماذا تكتب سيرة في وقت مبكر من عمرك؟ ذلك أن السيرة غالباً ما ترتبط بلحظة متقدّمة من العمر، وإذا ما فسرناها على طريقة القصصي الروسي أنطون تشيخوف، فالسيرة تأتي حين يتوقف المرء عن الأحلام..

* لأنّ الحياة متجدّدة وتسير بنا من منعطف إلى آخر بسرعة ومن غير أن ندرك انسلالها من بين أيدينا. ولا أشعر بأنّ هذه السيرة تأتي في عمر مبكّر، لأنّي أدركت قبل حوالى أكثر من ثلاثة وعشرين عاماً أنّ العمر ليس إلّا لحظة عابرة، وذلك حين تعرّضت لحادثة حرق في الخدمة الإلزامية كادت تودي بحياتي، ومنذ ذلك الوقت أيقنت بأنّ على المرء ألّا يؤجّل مشاريعه كثيراً ولا ينتظر أوقاتها التي يفترض بأنّها ستكون مناسبة، بل عليه أن يساهم بقسطه الإنسانيّ في عالمه. ولا أدري هل كنت محظوظاً أم منحوساً حين تعرَضت لتلك التجربة التي عدت فيها من الموت إلى الحياة، ولم أرد بعدها أن أعيش مثقلاً بمشاعر الحقد والكراهية لأنّ الإنسان هشّ جدّاً وعليه أن يعترف بهشاشته ويتخلّى عن غروره وتكبّره، لذلك فالعمر ليس مبكّراً، واللحظة المناسبة هي ما تختاره أنت لا ما تؤجّله. الموت يعلّمك الكثير في الحياة. وقد كتبت فصولاً عن محاصرة الموت لي في حياتي، وكيف أنّه يداهم عالمي ويسرق كثيراً من أصدقائي ومعارفي ممّن يفترض أنّهم ما يزالون في ربيع أعمارهم. علّمتني مأساتي الشخصية ومأساتنا السورية أنّ الموت أقرب إليك ممّا قد تظنّ بكثير لذلك لا بدّ من الإقدام على ما ينبغي الإقدام عليه.

أؤمن بأنّ حكايات الأدباء وسيرهم وأفكارهم ينبغي ألّا تظلّ مقتصرة عليهم ومؤجلة في قلوبهم وعقولهم إلى حين العثور على وقت مناسب لها، وأعتقد أنّ الكتابة الصريحة المباشرة تلقى آذاناً صاغية لدى القرّاء الذين يتلقّونها بوعي ومسؤولية بدورهم ومن دون البحث عن ثغرات للتغلغل في حياة الكاتب أو محاولة التلصّص لكشف أسراره أو فضح ما قد يتكتّم عليه. وحين بدأتُ بكتابة فصول من سيرتي قبل بضع سنوات، توقّفت، وقلت لنفسي إنّ الحديث عن العنصرية في سياق السيرة وبشكل مباشر قد يكون مستفزّاً ومحرّضاً على ردود أفعال أو أقوال عنصرية بدورها، وبدلاً من أن أحارب الظاهرة وأنتقدها، ربما أتسبّب في إيقاظها وتفعيلها، فركنتُ الملف جانباً وانشغلت بكتابات أخرى، روائية ونقدية، لكن مع الأحداث والمستجدّات التي حصلت وتحصل هنا وهناك، والتي تنطلق من عنصريات مقيتة بدورها وترتكز عليها، وجدت أنّ من الأنسب التفكير بالكتابة بصوت عال، وعدم الركون لأية وساوس أو هواجس من شأنها أن تقعدني عن المبادرة بطرح تجربتي الحياتية التي شهدت في محطات منها عنصريات مركّبة، سواء في بلدي سوريا أو في ملجئي في بريطانيا، أو ما بينهما من محطّات السفر والحياة.

لا يتعلّق الأمر بعمر مبكّر أو متأخّر بقدر ما يتعلّق بالشعور بأنّ التجارب أو الأفكار التي ينهض عليها الكتاب نضجت وبحاجة للخروج للآخر والبحث عن التفاعل معه، والسيرة بحكم مباشرتها – وأزعم مصداقيتها – فإنّها قد تكون مفيدة للاعتبار والانطلاق نحو آفاق أرحب ومحاولة تحجيم أو محاصرة الظواهر السلبية أو المواقف العنصرية التي تعرّضت لها، والتي تعرّض لها غيري، بنسب متفاوتة أيضاً، بحيث تحمل وصفاتها المؤلمة عساها تساهم بالتخفيف من حدّة ما نعانيه في واقعنا من أزمات وما نعيشه من صراعات.

كما أنّ كتابة السيرة لا تتعلّق بحالة التوقّف عن الأحلام، بل هي في حدّ ذاتها تتحوّل إلى محطة على درب تحقيق الأحلام، فالحلم هنا ليس متمثّلاً في الكتابة ومتجسّداً فيها فحسب، بل يتّسع ليشمل رؤية تراجع ظواهر قاهرة متنامية في مجتمعاتنا، والبحث عن وضع حدود لها عبر الانطلاق من البوح الشخصيّ وعدم الخشية من التعبير عن الذات وعمّا تعرّضت له في رحلتها نحو الاستشفاء والوعي المأمول.

- هل أصابتك محنة العنصرية والذكورية في مرحلة من المراحل، في المجتمع الذي تتحدّث عنه الآن؟ وهل نجوت من العنصرية؟

* لا أعتقد أنّ هناك أحداً لم يتعرّض لمواقف عنصرية معيّنة في مرحلة ما من مراحل حياته، لأنّ العنصرية مبثوثة في كلّ مكان وزمان، ولا يمكن التخلّص منها بسهولة، بل تراها تجتاح بأردية مختلفة وبأقنعة ملوّنة تختفي في ظلالها بحيث توحي بالبراءة أو تتقنّع بها، وتتنامى بطريقة قد تبدو طبيعية، لكنّها في الواقع نتاج تراكمات كثير من المواقف والأفكار والقيم الثقافية والحضارية.

أتحدّث عن كثير من المجتمعات والأماكن، ابتداء من الأسرة الصغيرة في عامودا، مروراً بالحارة ومن ثمّ الحي وبعدها المدينة فالمحافظة فالبلد برمّته، ثمّ الجوار العربي والتركي، ومن ثمّ المجتمع الغربيّ الذي أعيش بين ظهرانيه منذ ما يقرب من العقد من الزمن.

هناك أحداث وأفكار لا يمكنك أن تنجو منها بسهولة، تظلّ ملتصقة بكيانك وروحك وتظهر في أحلامك وكوابيسك بين وقت وآخر، وذلك في أوقات تظنّ أنّك تخلّصت منها، وهكذا هي العنصرية، تشعر بأنّك نجوت من براثنها، لكنّها تعود لتتجسّد في مواقف جديدة فتحيي معها تلك البائتة في قعر الذاكرة وتضخّ فيها سموماً جديدة. الكتابة عن العنصريات هي وسيلة من وسائل النجاة والاستشفاء والعلاج، وهي محاولة مساعدة على تفهّم الواقع وما يعترك فيه من عنصريات بعيداً عن زعم الفضيلة أو التعالي عليه. الواقع يضجّ بكثير من الممارسات والأفكار الظلامية السوداء فلماذا نتحرّج من الحديث عنها وكشف الأقنعة التي تخفي عوراتها!

- ما نوع العنصرية التي عانيت في ظل نظام "البعث،" وفي ظل النظام التركي، أو حتى النظام البريطاني الليبرالي الحر؟

* كان يكفي أن تكون كرديّاً حتّى تعاني مرارات العنصرية والكراهية في ظلّ نظام "البعث" الإقصائي، فكيف بك وأنت كاتب كرديّ تنتقد الممارسات الاستبدادية، لتقع في شرك التسخيف والاحتقار، وتوضع في خانة الاتّهام المباشر وغير المباشر بالتخوين. الأنظمة التي تتحكّم برقاب الأكراد ومصيرهم حاولت عبر عقود بلورة تصوّر سخيف فحواه الجهل والتخلّف، وحاولوا تصوير الكرديّ بصورة البسيط الريفيّ المرتبك الذي لا يستدلّ إلى طريقه ويحتاج إلى من يأخذ بيده ويساعده ليتمكّن من عيش حياته. وهذه تصوّرات تختلط فيها العنصرية بالصلف والوقاحة، لأنّ اعتبار الكرديّ خطراً محتملاً مستقبلياً حرمه من الاعتراف بوجوده الإنسانيّ لدى تلك الأنظمة البليدة التي لم يكن هناك أيّ اعتبار للقانون أو العدالة في عرفها.

في بريطانيا الوضع مختلف، القانون يكفل الحماية لك كمواطن من حقّه أن يتمتّع بكرامته وحرّيته في مجتمعه بعيداً من الإلغاء والتدمير، لكن هناك عنصريات زئبقية، مناورة، تسير وتتفاقم بمعزل عن القوانين والتشريعات، ولا تكشّر عن أنيابها بتلك الوقاحة التي كانت عليها العنصريات في بلداننا، بل تراها تتكشّف وتتفجّر في مواقف معيّنة وفي دوائر محدودة، لكنّها لا تتمكّن من الاختباء دوماً، فقد تفضح أصحابها وتعود بالشعارات التي يرفعونها إلى الحضيض، كحالة مَن يسكر ويتّهم الكحول بإخراج أفكار ومواقف لا يؤمن بها من فمه، أو كحالة العنصريات التي انفضحت في الملاعب الإنكليزية ومن قبل بعض المشجعين الذين اتّهموا لاعبين سوداً بالتسبّب بخسارة المنتخب الإنكليزي في كأس الأمم الأوروبية السابقة. 

- بغض النظر عن الذكوريات تجاه المرأة وحياتها، وهذا نزوع قبلي متوافر بقوة لدي الجميع، العرب والكرد والشركس والتركمان، أي العنصريات تكتنف المجتمع الكردي تجاه الآخر؟

* ككلّ مجتمع يعجّ المجتمع الكرديّ بعنصريات تطلّ برأسها بين وقت وآخر، هناك عنصرية قبَلية وأخرى مكانية، ناهيك عن الطبقية والحزبية والدينية، كما أنّ الكرديّ السوريّ في عرف كثير من الأكراد العراقيين أو الأتراك سوريّ، وذلك من باب التخفّف من المسؤوليات التي قد يفرضها الانتماء القومي عليهم. ولا ننسى أنّ المجتمع الكرديّ مجتمع شرقيّ أوّلاً وأخيراً، لذلك فهو رهين جميع المصائب والمآسي التي تغرق مجتمعاتنا الشرقية وتسمّم واقع أبنائها وحيواتهم.

عنصرية الكرديّ تجاه الآخر ردّ فعل حمائيّ بالمجمل، لأنّه في موضع الدفاع عن هويته ووجوده ولا يملك سلطة الفتك أو التنكيل بالآخرين وإلغائهم، وهي صدى للعنصريات التي مورست بحقّه لذلك فهي حاضرة بحضور الآخر ومتنامية باستمرار نهج الإلغاء الذي تعرّض له تاريخيّاً.

- لأي قارئ توجه هذا الكتاب؟

* أتوجّه بالكتاب للقرّاء في الشرق والغرب على السواء، لأنّه لا أحد منّا بمنجى عن العنصرية أو محصّناً ضدّها، وأنا حين أكتب عن بعض حكايات مع العنصريين فأحاول منح الفرصة للآخرين أو إفساح المجال أمامهم للتعبير عن عنصرياتهم وتلك التي تعرّضوا لها بغية التخلّص منها، بحثاً عن مساحة للحلم والأمل والسلام. لا يمكن القضاء على أيّة ظاهرة أو تحجيمها من دون الإفصاح عنها والحديث عنها بشكل علنيّ يكشف خباياها ويزيح الغموض والتشويش عن تفاصيلها ومزاعمها.

- وأنت تكتب عن التفكير في الموت والمنفى، يبدو أنك تأخذ الكتاب إلى حيز آخر، في عوالم المنفى واللغة، وفي هذا الإطار يمكن طرح السؤال حول المنفى، هل بدّل لغتك؟ هل أعطاك جانباً من الحرية لم تعتد في البلد الأم أو مسقط رأسك؟

* المنفى أو الملجأ، هو ملاذ آمن لي، أصبح وطناً بمعني من المعاني، ولعب دوراً في كتابتي وحياتي، وأعطاني هامشاً لم أحلم به من الحرّية في بلدي، حرّيّة كنت أظنّها موجودة في الكتب فقط، وهي حرّية تتضاعف معها المسؤولية في المواجهة والكشف والتعرية. بلدي كان منفاي الحقيقي، كان سجناً كبيراً، إقطاعية يتناهبها الطاغية وأزلامه وعبيده، بحيث كان يتمّ تجريده من معناه، ليصبح مغترباً طارداً لأبنائه. يا إلهي كم اشتغل الديكتاتور على تشويهنا من الداخل وسحقنا في أعماقنا!

- أنت الكردي السوري الذي يكتب بالعربية، ويعيش في بلد غربي ويحمل جنسيته، كيف علاقتك باللغة، سواء الكردية أو العربية أو الإنكليزية؟

* أنا غريب في كلّ لغة منها ومستوطن فيها في الوقت نفسه. علاقتي مع اللغات متوتّرة، فأنا أكتب العربية وأعيشها في عالمي القرائي والكتابي والمهنيّ، هي وطن لي، لكنّي حين أتحدّثها أحاول الاقتراب من الفصحى، أو عامية المثقفين كما تمكن تسميتها، أستمتع بها كتابة وقراءة بشكل أكبر. أتحدّث الكردية في بيتي وأعيشها في حياتي، هي وطني الأوّل، أقرأ القليل بالكردية ولا أكتب إلّا نادراً بها، أستمتع بها وأعيشها منطوقة ومقروءة. ومع الإنكليزية التي أصبحت لغة بناتي الأولى إلى جانب الكردية فأجدني مرغماً على أن أجهد بالإصغاء إليها، وهي موطني الجديد الذي أحتاج عمراً لتأثيثه، ما زلت أتلكّأ بالتعبير عمّا أريده تماماً بها، ومن هنا فأشعر بغربتي الدائمة فيها، ولكن باستيطاني كذلك حين أستمع لبناتي وهما تحكيان لي قصصهما وحكاياتهما وأفكارهما.

- أي كلام يمكن أن توجهه إلى الأكراد والعرب بشأن العنصرية؟

* لا حدود للعنصرية ولا سقف للأحقاد والكراهيات، الحياة قصيرة والعمر لا يحتمل المضي في مستنقعات العداء والإلغاء والانتقام. إن لم يكن من العيش بدّ، فعلينا أن نتعايش بسلام، ولا بدّ لكلّ منّا التخفُف من غلوائه قليلاً لنوسّع مساحتنا المشتركة ونبني معاً عالماً يمكن أن يحتوينا بعيداً من الاستبداد والطغيان. أعلم أنّ ما خلّفه المجرمون خطير لدرجة أنّه قد ينسف أية محاولات جدّية للعيش المشترك، إلا أننا نراهن دوماً على إنسانيتنا التي هي سلاحنا في حياتنا ومستقبلنا. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها