على ضفاف النهر، أيضاً، اشتغلت الشقيقتان اللبنانيتان، ميشيل ونويل كسرواني، على فيلمهما القصير "يرقة" الذي فاز مؤخراً بجائزة "الدب الذهبي" لأفضل فيلم قصير في مهرجان برلين. لكن، كيف للملحمة النسائية في تاريخ تربية دود القز وصناعة الحرير في بلاد الشام، أن تكون خيطاً رقيقاً ومتيناً في آن، يربط ماضياً عمره يناهز القرنَين، بحياة شابتين، لبنانية وسورية، في غربتهما الفرنسية؟ بل كيف للخيط نفسه أن يلفهما معاً في تجربةٍ واحدة، رغم تلافيها الادعاءات والمزاعم الثقافية والنسوية والإيديولوجية الكبرى، إلا أنها هكذا دافئة وعميقة؟ مثلها مثل أثداء جدّاتهما التي كانت يوماً حاضنات أمومية طبيعية، ومُستعمَرة أيضاً، لبيوض القز ريثما تفقس، فتبدأ بإنتاج حريرٍ حرَّر عاملات القرن التاسع عشر واستعبَدهن في الوقت نفسه. إنها السينما، خارقة الاحتمالات، رقيقة الجريان، مثل التاريخ نفسه.. ذلك النهر.
استند فيلم "يرقة" إلى مقالَين بحثيَين: الأول، "حب الحرير" لفواز طرابلسي (نُشر في عدد أيار/مايو 1996 من مجلة "أوريان اكسبرس" اللبنانية الفرانكوفونية، ثم طوّره الكاتب في كتابه الأثير "حرير وحديد.. من جبل لبنان إلى قناة السويس"). والثاني، بعنوان "بيت لآلهة البيت: الجندر والطبقة والحرير في القرن الـ19 في جبل لبنان" لأكرم فؤاد خاطر (بالإنكليزية، عن جامعة كامبريدج، 2009). لكن الخلفية البحثية لن تكون عبئاً على نصف الساعة الذي سيغزلنا في شرنقة الأختَين كسرواني، وإن صعبت مقاومة غواية العودة إلى المقالين الطويلين لقراءتهما بنهم جديد.
في تدفّق الحكاية التاريخية الممتدة، بسياسييها وكهنتها واقتصادييها، نلتقي آلاف النساء اللواتي رفعت السلطات الشامية، الدينية والاجتماعية، في القرن التاسع عشر، سقوف المسموح لهن، من عمل خارج المنزل واختلاط وجَنيٍ للمال، في سبيل موجة مربحة كانت جديدة ومثيرة. صنعة جديدة تحتاج أيدي النساء الأصغر حجماً والأكثر قدرة على الحِرَف الدقيقة.. بل كانت في حاجة أيضاً إلى أثدائهن. الكنيسة، الوجهاء، وعموم الذكور من أرباب العائلات،.. الكل غض الطرف عن "خطر" عمل النساء على عفّتهن وسمعتهنّ، وتالياً سمعة عائلاتهن. بل قدّموهنّ، غالباً، قرابين ضد العوز، عاملات مدى الحياة. لا يستطعن حتى التحادث في ما بينهن بسبب أصوات المغازل، وما يجنينه ليس لهن، بل للعائلة، غير الحرير الذي ينساب من بين أصابعهن ولن يرتدينه أبداً، رغم المواد الكيماوية التي ترهق أيديهن، والأبخرة السامة التي يتنشقنها، وساعات العمل الطويلة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها