الثلاثاء 2023/03/14

آخر تحديث: 19:45 (بيروت)

"يرقة"...أو ما يحدث على ضفاف التاريخ

الثلاثاء 2023/03/14
"يرقة"...أو ما يحدث على ضفاف التاريخ
increase حجم الخط decrease
"تاريخ الحضارة، مثل نهر، في مياهه جنود وسياسيون يتقاتلون ويذرفون أوراق الاقتراع والدماء، لكن، على ضفافه، يربّي الناس أولادهم، يبنون البيوت، يخرجون باختراعات علمية، يَحارون في شأن الكون، ويؤلفون الموسيقى والأدب". 
(المؤرخ والفيلسوف الأميركي، ويل دورانت).


على ضفاف النهر، أيضاً، اشتغلت الشقيقتان اللبنانيتان، ميشيل ونويل كسرواني، على فيلمهما القصير "يرقة" الذي فاز مؤخراً بجائزة "الدب الذهبي" لأفضل فيلم قصير في مهرجان برلين. لكن، كيف للملحمة النسائية في تاريخ تربية دود القز وصناعة الحرير في بلاد الشام، أن تكون خيطاً رقيقاً ومتيناً في آن، يربط ماضياً عمره يناهز القرنَين، بحياة شابتين، لبنانية وسورية، في غربتهما الفرنسية؟ بل كيف للخيط نفسه أن يلفهما معاً في تجربةٍ واحدة، رغم تلافيها الادعاءات والمزاعم الثقافية والنسوية والإيديولوجية الكبرى، إلا أنها هكذا دافئة وعميقة؟ مثلها مثل أثداء جدّاتهما التي كانت يوماً حاضنات أمومية طبيعية، ومُستعمَرة أيضاً، لبيوض القز ريثما تفقس، فتبدأ بإنتاج حريرٍ حرَّر عاملات القرن التاسع عشر واستعبَدهن في الوقت نفسه. إنها السينما، خارقة الاحتمالات، رقيقة الجريان، مثل التاريخ نفسه.. ذلك النهر.

استند فيلم "يرقة" إلى مقالَين بحثيَين: الأول، "حب الحرير" لفواز طرابلسي (نُشر في عدد أيار/مايو 1996 من مجلة "أوريان اكسبرس" اللبنانية الفرانكوفونية، ثم طوّره الكاتب في كتابه الأثير "حرير وحديد.. من جبل لبنان إلى قناة السويس"). والثاني، بعنوان "بيت لآلهة البيت: الجندر والطبقة والحرير في القرن الـ19 في جبل لبنان" لأكرم فؤاد خاطر (بالإنكليزية، عن جامعة كامبريدج، 2009). لكن الخلفية البحثية لن تكون عبئاً على نصف الساعة الذي سيغزلنا في شرنقة الأختَين كسرواني، وإن صعبت مقاومة غواية العودة إلى المقالين الطويلين لقراءتهما بنهم جديد.

في تدفّق الحكاية التاريخية الممتدة، بسياسييها وكهنتها واقتصادييها، نلتقي آلاف النساء اللواتي رفعت السلطات الشامية، الدينية والاجتماعية، في القرن التاسع عشر، سقوف المسموح لهن، من عمل خارج المنزل واختلاط وجَنيٍ للمال، في سبيل موجة مربحة كانت جديدة ومثيرة. صنعة جديدة تحتاج أيدي النساء الأصغر حجماً والأكثر قدرة على الحِرَف الدقيقة.. بل كانت في حاجة أيضاً إلى أثدائهن. الكنيسة، الوجهاء، وعموم الذكور من أرباب العائلات،.. الكل غض الطرف عن "خطر" عمل النساء على عفّتهن وسمعتهنّ، وتالياً سمعة عائلاتهن. بل قدّموهنّ، غالباً، قرابين ضد العوز، عاملات مدى الحياة. لا يستطعن حتى التحادث في ما بينهن بسبب أصوات المغازل، وما يجنينه ليس لهن، بل للعائلة، غير الحرير الذي ينساب من بين أصابعهن ولن يرتدينه أبداً، رغم المواد الكيماوية التي ترهق أيديهن، والأبخرة السامة التي يتنشقنها، وساعات العمل الطويلة.


في "يرقة"، أسما وسارة هما العامِلتَين المعاصرتَين. قد نفهم أنهما تُعيلان عائلتيهما الباقيتين في البلاد، وربما فقط أراحتا العائلتين من إعالتهما. التفصيل ليس مهماً، طالما أن الاغتراب وقع، ليس من أجل العمل فقط، بل أيضاً هرباً من الحروب والفقر والفوضى، ومن "حالة الطوارئ" التي يرفض جسد إحداهما نسيانها، فيما جسد الأخرى يحاول إعادة اختراع ذاتية.

عاملتان مهاجرتان في العقد الثالث من القرن الـ21، وإلى مدينة ليون الفرنسية التي منها انطلق سفراء الحرير إلى بلاد الشام، ساعين لإقناع القوى المحلية بأخذ مزارع القز وصناعة الحرير على عاتقهم، وحققت مغرياتهم نجاحاً باهراً، فإذ بمختلف المحاصيل الأصلية، والتي كانت طعام الناس ومؤونتهم وتجارتهم، وقد تحولت إلى أشجار التوت. ماذا لو بقيت هذه المحاصيل؟ ولم يسقط ذاك "الاقتصاد الجديد"، ولم تقع المجاعة؟ هل كانت أسما وسارة هنا؟ تتساءل إحداهما، قبل أن تهب لتنقذ زميلتها من مأزق في العمل، رغم أنها كانت قد وصفتها بالـ"فراشة.. لن تصمد أكثر من عشرة أيام". في هذه اللحظة، يبدأ نسج الخيط الذي سيربط الفتاتين. من الفراشة، سنعود بالعكس: إلى اليرقة، والدودة، والبيض.

نادلتان في مقهى في ليون التي استغل سفراؤها، ذات يوم، فلاحات لبنانيات وسوريات، واليوم تدعم مرافقها الثقافية صناعة هذا الفيلم وعرضه. تاريخ مُعاكِس أيضاً. وكأنما بين أثداء النساء البيضاوات في لوحات معلقة في المتاحف، وتشخص إليها الصديقتين الجديدتين، ينضج الفيلم، ونتدفأ بدفء شخصيتيه اللتين تلامستا بجروحهما. الشابة السورية تهدأ كلما فكرت أنها، هنا، يمكنها أن تكون غيرها، على ذوقها. لكن هدوءها هذا صاخب، يعجّ بالركض، بالتهافت على التماسك والاستقواء على التعب والوحدة. بالإصرار، رغم الإنهاك، على شراء قميص حريري، ولو كان رخيصاً، لكنه أحمر... والمَثَل الشعبي يقول "اللي بتطلعهن السمرا.. بتحطّن بودرة وحُمرة". هل يعود المثل فعلاً إلى تلك المرة الواحدة التي قررت فيها عاملات الحرير شراء شيء لأنفسهن من رواتبهن؟ ربما، وربما لا. لكن الخيط الحريري يزداد قوة.

وبالقراءة المعاكسة، من الفيلم إلى مقال فواز طرابلسي، وربما نستطرد إلى الرواية التي يبدو الحرير نبعاً فياضاً بها، من "الفراشة الزرقاء" لربيع جابر إلى "حرير" أليساندرو باريكو. نتابع توسع إنتاج الحرير، فائضاً عن جبل لبنان، لتبدأ عليّة القوم في بيروت بإنشاء مصانع دود القز ومصانع الغزل. خمس أو ست عائلات احتكرت استيراد البيض وتصدير الحرير الخام، وأقرضت المال للوسطاء والفلاحين، وأصبح هؤلاء المُقرِضين مصرفيي المراحل اللاحقة. وبحسب طرابلسي، في ولاية بيروت الممتدة من اللاذقية شمالاً إلى نابلس جنوباً، امتلكت عائلة واحدة 80% من دود القز. ومع تقدّم الصناعة، بدأت ديدان القز في استخدام الفحم بدلاً من الخشب، وساهم حرق الأخشاب في إزالة مساحات كبيرة من غابات الجبل. لكن خواجات بيروت سيطروا أيضاً على تجارة الفحم، واحتكروا استيراده من انكلترا ودول أوروبية أخرى، في تعاملهم مع النقل البحري، وجدوا أنه من المفيد تحولهم إلى وكلاء لشركات تأمين، وأن تمتد قبضاتهم إلى مرفأ بيروت.

فجأة، وقبل سنوات قليلة من الحرب العالمية الأولى، انهار اقتصاد الحرير، وأدى اكتشاف الحرير الصناعي (من أصل نباتي) إلى انخفاض كبير في الطلب في المدن الأوروبية. أغلقت المصانع، وانتشر الفقر والجوع، وهاجَر أبناء بلاد الشام أفواجاً. لكن كبار اللاعبين في اقتصاد الحرير تمكنوا من التكيّف بسرعة. أصبح خواجات بيروت وكلاء لمنتجات الصناعة الفرنسية والأوروبية، بموازاة الشركات البحرية، من دون إغفال نشاطهم المصرفي. وما لبث الجسد الأنثوي في جبل لبنان أن انتقل من الإنتاج إلى التجارة، بحسب طرابلسي. لم تعد النساء يفقسن البيض بين أثدائهن. وتحول الـ"كار-خان" (حرفياً: مكان العمل – وهو معمل الحرير) إلى بيت دعارة مشتقاً تسميته الشعبية "الكرخانة". هؤلاء النساء لم "يفسدهن" الحرير، كما خشيت سلطات زمنهن، لكنهن كنّ بحاجة إلى كسب لقمة العيش، بعدما كنّ رديفات لـ28 مليون شجرة توت في جبل لبنان.

فماذا حدث لأسما وسارة؟ الكثير مما يقال أو يترك لحدس المُشاهد. المهم أنه لا يغرق في النهر، بل في القلب.
___________________

(*) "يرقة"

إخراج: ميشيل ونويل كسرواني
كتابة: ميشيل كسرواني
تمثيل: ماسة زاهر ونويل كسرواني
موسيقى: زيد حمدان ولين أديب

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها