الأحد 2023/03/12

آخر تحديث: 07:54 (بيروت)

من ذاكرة الستينات-7: المنابر الثقافية

الأحد 2023/03/12
من ذاكرة الستينات-7: المنابر الثقافية
انطوان قازان... محاضراً-في-الندوة-اللبنانية-1960
increase حجم الخط decrease
عندما يكون المستقبل قاتماً، كئيباً إلى هذا الحد، يصبح الترحال في الماضي القريب، علاجاً نفسياً أكثر مما هو تنقيبٌ عن الدروس والعبر. القول إننا كنا هناك، في فترة الستينات، باشراقاتها واحباطاتها، لا يعكس الرغبة بالعودة إلى الوراء. بل مجرد التوكيد على أننا لا نستطيع أن نظل هنا، في عشرينات القرن الحالي من دون ذكريات، يستعيدها الدكتور خالد زيادة، بلغة المثقف، ودقّة المؤرخ، وشغف الباحث..عن مستقبل"... بعد الحلقة الأولى والثانية والثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة، هنا السابعة.


كان أبرز منبرين ثقافيين في الستينات، النادي الثقافي العربي والندوة اللبنانية اللذين يعبران عن اتجاهين ثقافيين: الاتجاه العروبي الذي مثّله النادي الثقافي العربي، والاتجاه اللبنانوي الذي مثّلته الندوة اللبنانية. وقد عكس كل منهما بيئة ثقافية واجتماعية ذات خصوصية طبعت أبناءها والقاطنين في اطارها.

تأسس النادي الثقافي العربي عام 1944، أي في السنة التالية للاستقلال وهو بذلك من أعرق النوادي الثقافية التي مازالت قائمة وناشطة بعد أكثر من ثلاثة أرباع القرن على تأسيسه. أما المبادرة في إنشائه فقد قام بها ثلاثة من خريجي الجامعة الأميركية في بيروت هم: نديم دمشقية وفؤاد سليم السعد ورامز شحادة، وكانوا من الشباب المتأثر بالاتجاه العروبي (قبل تأسيس حزب البعث عام 1947 وحركة القوميين العرب عام 1952). وسرعان ما استقطب النادي الشباب الجامعي من لبنانيين وسوريين وفلسطينيين وأردنيين وعراقيين، الذين يتابعون دراساتهم في الجامعة الأميركية والذين أثرت فيهم أفكار ساطع الحصري وقسطنطين زريق، وخصوصًا هذا الأخير الذي كان أستاذًا في الجامعة الأميركية وألّف كتابًا بعد إعلان دولة إسرائيل عام 1948، حمل عنوان: معنى النكبة، في الوقت الذي أصبحت القضية الفلسطينية  المسألة المركزية في الفكر العروبي. بل إن النكبة كانت الحافز لتأسيس حركة القوميين العرب من جانب طلاب في الجامعة الأميركية، جورج حبش ووديع حداد وهاني الهندي.

وأصبح النادي الثقافي العربي منبرًا للحركة الناشئة يستقطب العناصر المنضوية فيها، ويخصص نشاطاته والمحاضرات التي يقدمها أسبوعيًا للموضوعات المتصلة بالوحدة العربية والقضية الفلسطينية، وكان من بين أبرز أعضائه والمحاضرين في مقره برهان الدجاني وصلاح الدين الدباغ وعبد الحميد شرف. وأقام النادي أول معرض للكتاب عام 1956، وهو أول المعارض العربية على الاطلاق والمستمر حتى يومنا. كما أصدر مجلة "الثقافة العربية" التي تنشر دوريًا المحاضرات التي تُلقى على منبره.

أما الندوة اللبنانية فقد أسسها ميشال أسمر عام 1946، وقد ارتبطت باسمه، وهو تلميذ الجامعة اليسوعية. عمل في الصحافة، وكان متأثرًا بجبران خليل جبران ويستمد فكرته عن لبنان من ميشال شيحا (المفكر اللبناني الذي شارك في صياغة الدستور عام 1926). وكان في الثلاثين من العمر حين أسس الندوة اللبنانية التي أرادها أن تكون منبرًا لتعميق فكرة لبنان في الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والاجتماع والفنون والعلوم، كان ميشال أسمر ميثاقيًا، يعتبر أن استقلال لبنان ليس كافيًا لتحصين هذا البلد، فلا بدّ من بلورة الهوية اللبنانية، وكان لافتًا أن يكون أول محاضريه في ندوته هو الزعيم الشاب آنذاك كمال جنبلاط. واستقبلت الندوة اللبنانية، في سنواتها الأولى أبرز أسماء الفكر والسياسة والأدب في لبنان أمثال أمين نخلة ونجيب صدقة وأنطوان تابت وشارل عمون وشارل قرم وفؤاد إفرام البستاني وجورج نقاش وموريس الجميل وجورج حكيم واميل البستاني وميشال شيحا وتقي الدين الصلح وسعيد عقل وجواد بولس وقسطنطين زريق وشارل مالك وحميد فرنجية وغسان تويني.

وإذا ما تفرسنا في هذه الأسماء نجد أنها تمثّل النخبة اللبنانية في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين ويغلب عليها الانتماء إلى الثقافة الفرنسية (والعديد من المحاضرات كانت تُلقى بالفرنسية) لكن ميشال أسمر كان حريصًا على التعددية اللبنانية. كما أراد أن تكون ندوته منبراً لإطلالة لبنان على العالم فاستقبل المؤرخ أرنولد تونبي والرئيس السنغالي ليوبولد سنغفور والرئيس التونسي الحبيب بورقيبة.

(*)

كانت بداية الستينات نقطة تحوّل بالنسبة للنادي الثقافي العربي والندوة اللبنانية على السواء. فمع عام 1960 لم يعد للنادي الثقافي صلة مباشرة بحركة القوميين العرب التي أصبح لها منبرها الخاص مع إصدار جريدة "الحرية" عام 1960، الناطقة باسم الحركة. والأبرز في التحوّل الذي عاشه النادي آنذاك هو اختيار المحامي جوزيف مغيزل المحامي الذي درس الحقوق في الجامعة اليسوعية. والذي كان عضوًا في حزب الكتائب، فغادره ليكرّس أعماله للقضايا الحقوقية رافعًا لواء العلمانية والتعددية والحريات، ومؤلفاته: دراسات في مفاهيم الحرية- لبنان والقضية العربية- ضد الطائفية- حقوق الانسان في لبنان وغيرها. وقد استمر جوزيف مغيزل رئيسًا للنادي الثقافي العربي طوال عقد الستينات من 1960 حتى عام 1972. ومثّلت رئاسته للنادي تحولاً تحت تأثير الشهابية، فأصبح النادي أكثر لبنانية في تناوله للموضوعات التي تلقى من خلال منبره والتي شارك فيها شخصيات مثل سليم الحص وادمون نعيم ومنح الصلح ومحسن إبراهيم وبشير الداعوق والياس سابا ويوسف الصايغ، فلم تعد الاهتمامات تقتصر على قضايا العروبة بل اتجه صوب معالجة قضايا الاقتصاد والتنمية ومسائل الاشتراكية والديمقراطية والنفط.

وقد حدثّ التحوّل نفسه في الندوة اللبنانية تحت تأثير الدعوة التنموية للشهابية.

وحسب ميشال أسمر نفسه، فإن الندوة اللبنانية مرّت في طورين تفصل بينهما أحداث 1958، في الطور الأول سعت إلى استقطاب قادة الرأي في البلاد لتكوين نُخبة مفكرة ملتزمة قضايا البناء الوطني اللبناني، والطور الثاني سعت إلى معاونة الدولة في بناء مؤسساتها ضمن رؤية مثلتها الشهابية. لكن كل شيء تغيّر بعد حزيران 1967، وأدركت الندوة اللبنانية ذلك. إذ إن كل شيء تغير: العلاقات بين لبنان ومحيطه تغيرت والعلاقات بين أطراف الحكم في لبنان تغيرت. (ناصيف نصار ضمن عهد الندوة اللبنانية، خمسون سنة من المحاضرة، دار النهار- بيروت، 1995).

 استطاعت الشهابية بتوجهاتها التنموية أن تقرّب المسافات بين أصحاب العقائد والتوجهات العروبية- اللبنانوية المتقابلة، لكن تطورات نهاية العقد وأفول الشهابية عاد ليفرّق بين اللبنانيين. ونذكر أن النادي الثقافي العربي حافظ على توجهاته العروبية- اللبنانية، واستمر في رعاية معرض الكتاب العربي، أما الندوة اللبنانية فقد توقف نشاطها مع بداية الحرب عام 1975.

(*) هذه الصورة نشرها الكاتب جورج الراسي في فايسبوك، تعود لعام 1970 إلى إجتماع عقدته الهيئة الإدارية للنادي الثقافي العربي للتحضير لمعرض ذلك العام: في الوسط جوزيف مغيزل، على يمينه فؤاد السنيورة ومحمد قباني وكميل حوا. وإلى يساره جورج الراسي وإلى جانبيه بقية أعضاء الهيئة: جورج دلل ومحمود حداد وسامي مشاقة...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها