السبت 2023/03/11

آخر تحديث: 12:37 (بيروت)

استعادة دوناتيلو مُلهِم ميكيلانجلو.. مَن تفوّق على مَن؟

السبت 2023/03/11
increase حجم الخط decrease
تحتفي أوروبا برائد فن النحت في عصر النهضة دوناتيلو، وتعيد استكشاف ميراثه الفني من خلال معرض كبير ترافقه سلسلة طويلة من الأبحاث والإصدارات الإعلامية المتلاحقة. في الذاكرة الجماعية، يُعتبر هذا النحات مُلهِم ميكيلانجلو الذي سار على دربه وبلغ من بعده القمة، وبات شيخ النحاتين وأعظمهم شأناً. غير أن الأبحاث المعاصرة تشكّك في هذه المقولة، وترفع من شأن دوناتيلو، وتجعل منه نحات النهضة الأوّل بامتياز. 

قبل سنوات ثلاث، نظّم متحف اللوفر الفرنسي، بالتعاون مع متحف "قلعة سفورزيسكو" الإيطالي، معرضاً كبيراً جمع 140 قطعة فنية تختزل تطوّر فن النحت في مختلف الأراضي الإيطالية خلال النصف الثاني من القرن الخامس عشر. جاء هذا المعرض تحت عنوان "الجسد والروح، من دوناتيلو إلى ميكيلانجلو"، وافتُتح في باريس، خريف 2020، وبعد تسعة أشهر، انتقل إلى ميلانو حيث تواصل عرضه أربعة أشهر. وسلّط هذا المعرض الضوء على الحقبة التي سبقت ظهور ميكيلانجلو، وشكّلت المحطّة الأولى في إعادة استكشاف مسيرة دوناتيلو ونتاجه متعدّد الأوجه.

إثر هذه المحطّة، عقدت أربعة متاحف عالمية اتفاقاً لإقامة معرض كبير يُخصّص لهذه المسيرة. في فلورنسا، اجتمعت "مؤسسة بالازو ستروذي" مع إدارة متحف "بارجيلو" العريق، وأطلقت هذا المشروع بالتعاون مع متحف "جيملد غاليري" في برلين، و"متحف فكتوريا وألبرت" في لندن. افتتح هذا المعرض أولاً في فلورنسا، في شتاء 2022، تحت عنوان "دوناتيلو، النهضة"، وانتقل إلى برلين في الخريف تحت عنوان "دوناتيلو مخترع النهضة"، وحلّ بعدها في لندن منذ أيام تحت عنوان "دوناتيلو ناحتاً النهضة". وجاء في بيان "متحف فكتوريا وألبرت": "يُعدّ الفنان الإيطالي أعظم نحّات في كل العصور، بفضل إبداعه الملهم للتأثيرات التاريخية، بما في ذلك العصور القديمة الكلاسيكية، وفن العصور الوسطى الأنيق. وقد ساهمت هذه الأفكار في رؤية جديدة وفريدة تماماً، عبّر عنها دوناتيلو من خلال مجموعة رائعة من الأعمال في الرخام والخشب والبرونز والتراكوتا (الطين المحروق) والجص".

في الواقع، يُصعب القول بأن دوناتيلو هو "أعظم نحّات في كل العصور"، لأن هذا القول يعكس المقولة التقليدية التي تجزم بأن الكلاسيكية اليونانية الرومانية تمثّل وحدها قمّة الفنون، وقد رفض اهل الاختصاص هذه المقولة بشكل جذري منذ منتصف القرن العشرين، وبات للنحت، كما لسائر الفنون، كلاسيكيات عديدة، لا كلاسيكية واحدة. في العالم القديم، برز النحت الواقعي الحسّي في العالم الأفريقي، وبلغ القمة في إقليم أتيكا التاريخي، وانتقل منها إلى روما، غير أنه تراجع في العصر المسيحي بشكل كبير، وذلك بالتزامن مع ظهور جمالية جديدة مغايرة تماماً، سادت على مدى قرون من الزمن.

يختصر اسم براكستيليس جمالية النحت الإغريقي القديم، تماماً كما يختصر اسما دوناتيلو وميكيلانجلو جمالية النحت في عصر النهضة الإيطالية، وهو عصر "الولادة الجديدة" للكلاسيكية الإغريقية القديمة. بحسب الأخبار المتناقلة، عاش براكستيليس بين العام 400 والعام 330 قبل المسيح. ولد في كنف عائلة ثرية، وقيل إنها واحدة من أثرى ثلاثمئة عائلة في أثينا، وكان والده نحاتاً، فتتلمذ على يده ونهل من خبرته. تشرّب من ثقافات الوسط الثقافي في أثينا، "مدرسة اليونان" الكلاسيكية بامتياز، واختبر ناموس تقاليد أتيكا التي قام عليها الفن الإغريقي في عهده الذهبي الأول. عرف الشهرة باكراً، ومارس عمله في آسيا الصغرى كما في جزر البيلوبونيز، وتميّز بأسلوب خاص جعله مثالاً في الإبداع والخلق في عهد الامبراطرية الرومانية. والمعروف أن براكستيليس كان أول من عرّى أفروديت وكشف عن مفاتنها، فاتحاً من حيث لا يدري باباً جديداً في عالم الفن الإغريقي هو باب العُريّ الأنثوي. وصف العالم الكبير بلينيوس هذا التمثال، وجزم "أنه ليس أجمل تماثيل براكستيليس فحسب، بل أجمل تماثيل العالم قاطبة"، وسجّل افتتانه بـ"الإبتسامة التي تتلاعب برقّة على شفتيها المنفرجتين، ونظرة العينين المستنيمة بما فيها من تعبير عن البهجة المتألقة".

هكذا أضحى الجسد البشري مع براكستيليس أساس العمل ومحوره. المثال هنا هو الجسد الحي السليم من كل عيب، والفنان مدعو إلى إظهار كل جارحة من جوارحه. ابتعد الفنانون عن قاعدة الجماد والثبات التي سادت فنون الشرق القديم، ودخلوا في ميدان الحركة الحية. نحت المثّال الإغريقي الإنسان في صورته المتحركة، مظهراً كل حركة من حركات الجسد المرن، معلناً "أنسنة" الفن، بمعزل عن موضوعه "الإلهي". الآلهة بشر، وهم هنا في أحلى صورهم وأكثرها حسناً وفتنة. تحوّلت هذه الجمالية إلى ناموس فني ثابت إلى أن أقصى العالم المسيحي هذا المناخ في القرون الوسطى. عاد براكستيليس متوّجاً في عصر النهضة، وتأنسن الفن في زمن "الولادة الجديدة" للجمالية الإغريقية القديمة. افتتن الكبار والصغار في أوروبا بهذه الولادة، وبدت فنون العصور الوسطى في عيونهم فنونا "بدائية" كما جرت تسميتها. صوّر النحّاتون، القديسين والقديسات على مثال النماذج المتوارثة، وعادت صور الآلهة القديمة لتملأ القصور والبيوت قبل أن تدخل صروح الفاتيكان.

تختزل تجربة دوناتيلو هذا التحوّل، وتمثّل اختماره. أبصر هذا النحات النور في 1386 في فلورنسا، عاصمة عصر النهضة الأولى، ودخل في شبابه محترف المعلّم لورنزو غيبرتي، وتعرّف فيه على فيليبو برونليسكي، وبدأ معه مسيرته في النحت. انتقل الفنانان الشابان معاً إلى روما لدراسة فنون الأقدمين، وعادا إلى فلورنسا حيث لمع اسماهما. بعدها، افتتح دوناتيلو محترفاً خاصاً في 1428، ودخل في شراكة فنية مع المعماري ميكيلوزي، وأضحى في 1434 تحت رعاية كوزيمو دي ميديشي، أول حكام فلورنسا من سلالة مديشي الشهيرة. حصد دوناتيلو شهرة واسعة، وعمل في مدن إيطالية عديدة، منها كان بادوفا التي استقر فيها من 1443 إلى 1453، واستمرّ في العمل بالرغم أصابته بشلل تدريجي، إلى أن قضى عليه هذا المرض في 1466.

أنجز النحات خلال مسيرته مجموعة كبيرة من الأعمال، منها التي شارك في صناعتها، ومنها التي أتمّها بشكل فردي. أولى هذه الأعمال الفردية منحوتة من الرخام تُمثل النبي داوود وهو يقضي على الجندي العملاق جليات، تعود إلى 1409. وأشهرها قاطبة تمثال برونزي يمثُل كذلك داوود منتصبا فوق رأس جليات، يعود إلى 1430. يختلف التمثالان بشكل كبير رغم تبنيّهما الموضوع نفسه. يحضر داوود في التمثال الرخامي في هيئة فارس يلتحف وشاحاً ينسدل حتى حافة قدمه اليمنى، ويحضر في التمثال البرونزي عارياً تماماً على هيئة الإله الشاب أبولون. بين التمثال الأول والتمثال الثاني، أنجز النحات منحوتات عديدة تشهد لخروجه من النسق الغوطي المتأخر وتبنيه النسق الكلاسيكي الإغريقي بشكل تام. ويتجلّى هذا النسق بأبهى صوره في المنحوتات التي أنجزها في العقود الأخيرة من حياته.

يُبرز المعرض جوانب عديدة من نتاج دوناتيلو المتنوّع، ويسلّط الضوء على السياق الثقافي الغني لمسيرته، من بداياته المتواضعة كصائغ متدرّب، إلى مرحلة الشهرة والمجد تحت رعاية عائلة ميديشي التي ربطته بها علاقة وطيدة. في هذا السياق، يحضر العديد من الفنانين الذين برزوا في هذا العصر، منهم غيبرتي، وبرونليسكي، وميكيلوزي، إضافة إلى طائفة من النحاتين والحرفيين الذين رافقوا هذه المسيرة. برز دوناتيلو بين 1409 و1466، في عهد النهضة الأول. وبرز ميكيلانجلو بين 1494 و1555، في عهد النهضة الذهبي. ويبدو من خلال هذا المعرض أن ميكيلانجلو كان وريث دوناتيلو، ولم يتفوّق عليه إلا من حيث الشهرة فحسب.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها