على هامش كتاب "الكتّاب والكحول"، يمكن استحكاء واستقراء واستنطاق الواقع الثقافي العربي الذي ما زال في دائرة الخجل و"المحرّم" في المواضيع التي تتناول الشخصيات العامة وأخبارها وأسرارها، صالحها وطالحها...
في الغرب، لا يتركون زاوية في حياة الكاتب أو الفيلسوف أو الشاعر، إلا ويتناولونها، سواء كانت إيجابية أو سلبية، سواء تعلّق الأمر بموت الكاتب أو انتحاره أو عشقه أو كحوله أو كآبته أو ذكوريته أو عنفه أو مثليته، وأحياناً يصنعون من اللاشيء كتاباً. لنتأمل عدد الأبحاث التي تناولتْ الشاعرَين الفرنسيين، شارل بودلير وارثور رامبو، أو التشيلي نيرودا، أو الانكليزية سيلفيا بلاث، أو الأميركي والت ويتمان، وحتى الشقراء مارلين مونرو، ونيتشه وميشال فوكو وجون لينون والأميرة ديانا وفالتر بنيامين وكافكا وبيكاسو، من دون أن ننسى حياة المسيح في الروايات والأبحاث وكتب الفلسفة...
غالباً، الكتاب يوّلد كتاباً آخر، والفكرة تستدرج فكرة أخرى. حتى صورة كاتب يمكن صناعة أسطورة كلامية حولها، وعلى هذا يبقى رواد الثقافة والمشاهير في دائرة التداول والحياة والرواج والانبعاث... وهذا لا يعني أنّ كل ما يطرح يتّسم بالارتقاء والسمو والرفعة، فثمّة الكثير من الكتب السِيَريّة التي تخضع لاعتبارات تسويقية استهلاكية فارغة وباهتة.
في ربوعنا العربية، ربما يكون نجيب محفوظ وأم كلثوم ومي زيادة وجبران، أكثر المحظيين ببعض الدراسات البارزة والمستحقة، لكن السائد هو البلبلة حول السِّير. فنجيب محفوظ، عندما أجرى معه الناقد رجاء النقاش حواراً طويلاً على مدار سنة كاملة ونُشر مسلسلاً في إحدى المطبوعات، وكان بمثابة اعترافات على أسرته وأهله أثار ضجة كبيرة، اضطرّ إلى حذفها من النسخة التي أصدرها في كتاب بعد ذلك. وثمّة نقاد يضعون معظم السيَر في موضع الشكّ، وكثر من أصحابها إما يخضعونها لمبدأ تعويم الذات (السياسية)، اذ تخلو حياة الكاتب من أي شائبة أو خطيئة أو "انحراف"، كما كتب بعضهم عن كمال جنبلاط أو أنطون سعادة أو بشير الجميل. وفي المقابل، ثمّة من يلجأ إلى اختراع قصص في سيرته بهدف التسويق والبروباغندا...
ليس هدفنا هنا الكلام عن السير الذاتية أو المذكرات، بل غايتنا الإشارة إلى عدم الحماسة لكتابة سير الكثير من الشخصيات والتطرق إلى ضحالة "الجزء الأكبر" (وليس الكل) من كتب السير التي تتناول الشخصيات الثقافية والفنية والأدبية والسياسية العربية. الضحالة بمعنى أنها مكتوبة بغير جهد، ولا تعتمد التقصّي، وكثيراً ما تستند إلى هفوات النشر الانترنتي وحتى المجلات الصفراء والأرشيف التعسفي، وفي أكثر المرات تكون تمجيدية وليست معرفية. ثمّة "كاتب" متعدّد المواهب، أصدر كمية من السير الهزيلة عن بعض المشاهير، والهدف منها هو الربح السريع. عدا ذلك، هناك مئات الشخصيات اللبنانية والعربية المثيرة للجدل ويومياتها حافلة بالأحداث والتفاصيل وتشكّل ذاكرة خصبة للأجيال، لم يُكتب عنها أي كتاب أو بحث، وربما ننتظر مستشرقاً أو مستغرباً ليعرفنا عليها! وبعض السياسيين، خوفاً على حياتهم، أخذوا أسرارهم معهم إلى العالم الآخر. وبعض الشخصيات الأخرى، خوفاً من التفسيرات السيئة للاعترافات أو أدب المذكرات، يتفادون النشر... أحد الروائيين نشرتْ عائلته الجزء الأول من مذكراته، وتفادت نشر الجزء الثاني، حرصاً على التفسيرات الخاطئة، ذلك لأن المجتمع لا يرحم، لا ينظر بمبدأ الحرية، بل بمنطق التشهير والقدح والذم. شاعرة مثل أمال جنبلاط، تزوجت من الشاعر سعيد عقل، وانتحرت بعد فترة وجيزة، بالكاد نجد معلومة عنها في كتاب. أحد مريدي سعيد عقل، أصدر كتاباً عنه وحذف انتحارها من الواقع، كأن هذا الأمر لم يحصل في حياة الشاعر...
شخصية بارزة مثل الفنانة صباح كانت سيرتها أو مذكراتها تنشر في المجلات الفنية بنوع من تدوير الزوايا، والرقص على حافة الأشياء والحقائق... شاعر مثل جوزف نجيم لا نعرف كيف رحل أو قتل وهو الذي لطالما كتب عن الإيروس والجسد... كثر لم يحتملوا كشف هوية ريتا التي تغنى بها محمود درويش في قصائده. نعرف شعر بسام حجار ولا نعرف سيرته وأرقه الدائم المختفي وراء شعره الحميم، والأمر نفسه مع الشاعر محمد العبدالله ودون كيشوتياته الحياتية وأقداحة وقهقهاته في الأمسيات والليالي...
نعيش الصعلكة، لكننا لا نؤرخها. لقد نسينا صعلكة صاحب القصيدة الصوتية عادل فاخوري في مقاهي الحمرا، وعلاقته بالبيرة والذكاء الاصطناعي، أو يوميات محمد شمس الدين في حانة "شي أندريه". حتى المقاهي التي أمضينا زهرة عمرنا فيها، نسينا تأريخ ذاكرتها.
هناك "التابوهات" المسبقة (الاجتماعية والسياسية) التي تقف عائقاً أمام أي مشروع جدي في هذا المجال الثقافي. لنقرّ بأننا نعرف في أحاديثنا الشفوية وفي نمائمنا المقهوية، كل شيء عن الشاعر الفلاني أو الروائي الفلاني أو الفنان كذا، لكن معظم ما نحكيه لا يُدوّن ولا يُوثق في كتاب ليصبح في متناول القراء... هل هذا نتيجة خطأ ما؟ أم أن الجمهور التقليدي بشكل عام غير مستعد لثقافة لإعترافات والحرية والفردية؟ حتى في زمن فايسبوك والبوح العابر، ما زالت التحفظات أقوى مما نتصور. فيموت فلان، وهو صاحب باع في العنصرية والطائفية والهتك، فنمسح كل تفاصيل عنه ونقول "اذكروا محاسن موتاكم".
الشاعر الذي كان يعنّف زوجته، يلوم بعضهم زوجته لأنها أشارت إلى ذلك، والكاتب الذي تحدّث عن عنصرية عشيرته مع والدته السمراء، يعتبره بعضهم أبله، لأنه فضح ثقافتهم الموروثة... الشاعر الذي أدمن القمار والذهاب إلى الكازينو، يكتب عن القمار بطريقة برانية وكأنها لا تخصّه، ولم تكن مصدر كآبته، ولم تأخذ نصف عمره، زيّن النص بالحديث عن تجارب الأدباء والشعراء في العالم ولم يقترب من ذاته ونفسه وخساراته، غيره شعراء وكتاب كثر بقي القمار في تجاربهم مجرد حكاية شفوية... وهناك الكثير من الأسماء الأدبية التي أرهقتها الكحول وقتلتها في العالم العربي، لكن هذه القصص تبقى طي الكتمان. ذات مرة، كتب الشاعر حسن عبدالله عن علاقة شعراء إحدى العائلات بالكحول، فقامت القيامة ولم تقعد. قضايا مثل المثليّة تبقى مُستبعدة من عالم الاعترافات والتجارب الحقيقية وخاضعة للتأويل في بعض الروايات التي يجرب أصحابها مواكبة الموضة والاقتراب من الجوائز النقدية والمالية.
وللحديث صِلة...
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها