الثلاثاء 2023/02/07

آخر تحديث: 15:30 (بيروت)

دلال زين الدين... الكتابة بلا سقف

الثلاثاء 2023/02/07
دلال زين الدين... الكتابة بلا سقف
"أنا لا أحب الرومانسية في الكتابة، فالرومنسية هي تجميل الإشياء البشعة
increase حجم الخط decrease
عندما وصلتني قبل أشهر مقالة من الزميل فوزي ذبيان عن دلال زين الدين(*)، بعنوان "دلال زين الدين في "عمامة وجسد"... المهانة وإلتباس الحب"... لم أكن أعرف اسمها... ولا قرأتُ لها من قبل. وقعت في حيرة، سألت في قرارة نفسي ما الذي يدفع فوزي إلى الكتابة عنها، هناك سرّ ما. تابعتُ في البداية فايسبوكها عالي النبرة والتعليقات فيه. في المحصلة، المقال عرفني على روايتها التي سرعان ما قرأتها وتضمنت سرداً سلساً وشجاعاً من واقع اجتماعي مرّ ومريع، عرَفته الكاتبة ودوّنته بلا مواربة أو لف ودوران، لتكسر القيود وتعرّي الواقع، فتبدأ الرواية بفقرة: "إلى معلمتي التي سألتني ذات يوم: ما الهدية التي تتمنين الحصول عليها من إدارة المدرسة بمناسبة تفوقك في الدراسة؟ فأجبتها: أريد رواية! وعندما حان موعد توزيع الهدايا، أهدتني كتابًا في الفقه عن الفرق بين الحيض والاستحاضة. فبكيت".
 
مقال فوزي دفعني إلى قراءة الرواية، ثم التعرف إلى دلال المقيمة في جنوب تركيا، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. كنتُ أريدها أن تكتب في "المدن"، وكانت متحمّسة، وكان النقاش حول أي المواضيع يمكن أن تكتبها. قالت دلال إنها تكتب ما يشبه المذكرات عن سنوات عاشتها في سوريا أثناء الحرب. ومن خلال الحديث، كانت تقول الأشياء كما هي، وتكتبها كما هي، وهذا ما تبين لي من خلال بعض المقالات التي أرسلتها واطَّلعت عليها. قالت: "أنا لا أحب الرومانسية في الكتابة، فالرومانسية هي تجميل الأشياء البشعة، ولا أعرف أن أكتب غير قصص حقيقية حدثت معي، لا أعرف أن أكتب أموراً من الخيال".

تلك الحقائق التي كانت تكتب عنها دلال، بعضها كان صعباً نشره، حتى لا يفسره قرّاء بطريقة غير ما تقصده، كما أن بعض ما تكتبه قد يعرضنا لتلك الحملات الغوغائية الرائجة هذه الأيام. لكنها في جوهر الموضوع كانت تعري هذا المجتمع القائم على الظلم والعدوانية والجهل. 

كان نقاش بيننا حول الأمور التي تُنشر والسقف العالي، قلت لها أن الأمور تحتاج شيئاً من الانتباه، ثمة مَن قُتل بسبب كلمة، فقالت "في الأخير سنموت". روت كيف تربّت مع أشقائها في ميتم بعد وفاة والدها وعدم قدرة والدتها على إعالتهم، ورغم صعوبة العيش في الميتم لناحية الفكرة، تقول "الميتم جعل مني روائية": "في ذاك الميتم الذي كنت أكنّ له كرهاً يعادل حبي لأمي، عرفت الحب للمرة الأولى، سرقت الحلوى للمرة الأولى، صلّيتُ للمرة الأولى، تمنيتُ المرض للمرة الأولى والأخيرة، تعرفت على بيروت للمرة الأولى، والأهم من هذا كله أني تعلمت أبجدية الكلمات للمرة الأولى، وها أنا اليوم روائية للمرة الأولى". 

سألتُها: كيف بدأتِ تكتبين رواية؟ قالت: "عندما رجعتُ من حمص إلى الجنوب، لمحتُ رجل دين يرتدي عمامة بيضاء يغمز امرأة فقيرة متزوجة، فقلت في نفسي أن الأمر لا يستحق أن أكتب عنه رواية... سألتُ إحداهن والتي يعمل زوجها سائق تاكسي: أين زوجك؟ أريد منه أن يوصلني إلى المكان الفلاني، فأجابتني: اليوم لا يعمل، فلقد ذهب كي يبرم عقد متعة مع إحداهن، اليوم عمله خالص لله، ومع أني فوجئت ببرودة أعصابها وهي تحدثني عن ذلك، قلتُ في نفسي مجدداً: الأمر لا يستحق أن أكتب عنه رواية... حَمَلت إحدى الفتيات من شاب بعد عقد متعة بينهما، وما إن علم بحملها حتى تخلى عنها بحجة أن الجنين قد يكون من رجل آخر، فعدتُ وقلتُ في نفسي: الأمر لا يستحق... تم توزيع بطاقات للمعونة على بعض الفقيرات من الأرامل والمطلّقات من كبار السن اللواتي يتجاوز عمرهن الخمسين عاماً، وعند الذهاب لاستلام المعونة، فوجئن بفخ شرعي نُصب لهن: المتعة مقابل المعونة.. شعرتُ بالغثيان ومن دون أن أستأذن نفسي هذه المرة بدأت بكتابة هذه الرواية... كل الأشياء التي نظن أنها لا تستحق أن نكتب عنها الروايات هي التي يجب أن نكتب عنها".
 
كانت دلال على قطيعة مع "حزب الله". في البداية، كان في فضاء الحزب وتؤيد بشار الأسد، تزوجت من مهندس سوري من مدينة حمص وانتقلت للعيش في المدينة. كانت في بداية الانتفاضة السورية، في قلب حمص، وحصلت تظاهرات، ولم يكن ثمّة تطرف، وبدأت معارضتها للحزب بسبب الأكاذيب التي راح إعلامه يسوّقها حول الثورة: "كنتُ على الأرض وأرى ما يحصل، وإعلام الحزب يقول أموراً أخرى، بيتي دُمّر ومحل زوجي سُرِق كل ما فيه"... هذه التجربة جعلتها تكتب "حمص، المدينة التي عرفتني على الحسين". قالت: "كان لمدينة حمص تعريف آخر لشخصية الحسين، بالنسبة إلي، أنا المتحمسة دائماً للقيام بواجب  اللطم والبكاء واستحضار الثارات كلما اقتضت الحاجة (...) جاءت الثورة السورية في مدينة حمص العام 2011، لتعرفني على الحسين تعريفاً عملياً، بالمقاييس كافة. في تلك المدينة المسالمة، التي يطلقون عليها "أمّ الفقير"، لم أتعرف على الحسين في المساجد أو المقامات الدينية أو الحسينيات الموجودة في قرى ريفية تابعة لها. بل تعرفت عليه تدريجياً، عبر الإحتكاك بأناسٍ يُفترض أنهم أعداء الحسين".

وتعرضت دلال لحملات بسبب منشوراتها في فايسبوك، وسُمّيت "الناشطه الشيعية المعارضة" واتُّهمت بالعمالة والداعشية، وهي تنظر للشيعة على أنهم ضحية، وتعتبر التاريخ مزوراً، "إذا كانوا يزوّرون الحاضر أمام عينيّ، فكيف أصدق التاريخ؟". من بعد خراب حمص، غادرَتها الى لبنان، ثم إلى تركيا، وصارت الكتابة ملاذها في الاعتراض على الواقع وتعريته.

(*) حتى لحظة كتابة هذه السطور، ما زالت دلال زين الدين في عداد اللبنانيين المفقودين في أنطاكيا-تركيا، وتُتداوَل مناشدات لانتشالها وعائلتها من تحت الأنقاض من دون تأكيدات ممكنة بأنها ما زالت حيّة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها