الأحد 2023/02/05

آخر تحديث: 08:12 (بيروت)

مفارقات قادة الكنائس والتباساتهم

الأحد 2023/02/05
مفارقات قادة الكنائس والتباساتهم
المطارنة الموارنة (موقع بكركي)
increase حجم الخط decrease
يبدو قادة الكنائس في منطقتنا، ولا سيّما في لبنان، أسرى مفارقة لا يُحسدون عليها. فهم، من حيث المفهوم اللاهوتيّ، مؤتمنون على قيادة الكنيسة ورعاية الشعب المؤمن الذي ينتمي إليها. لكنّ هذه الكنائس غالباً ما يُنظر إليها بوصفها أيضاً طوائف يتدبّر شؤونها السياسيّة حزب أو أكثر، ما يجعل بعض رؤساء هذه الأحزاب يعتبرون ذاتهم مؤتمنين على «حقوق» الطائفة، ولا سيّما حين تضعف الدولة، ويخفت إحساس المواطن الفرد بالانتماء إليها، وتتراجع قدرته على التماهي بها، كما هو حاصل اليوم. هذا يقيم قادة الكنيسة في شيء من جدليّة قرب وبعد من حيث علاقتهم بالساسة. فتجدهم أحياناً ينتقدونهم ويؤنّبونهم، لكنّهم غالباً ما يكونون في حلف موضوعيّ معهم هدفه المحافظة على امتيازات الطائفة ومواقعها في الدولة. بذا، يقع قادة الكنائس، عن وعي أو عن غير وعي، ضحيّة المتلازمة الذهنيّة التي تحوّل الكنيسة إلى مجرّد طائفة. فيخسرون صدقيّتهم وقدرتهم على التحرّك الحرّ كبوصلة أخلاقيّة، ويصبحون أسرى اضطرارهم إلى خطاب يكتفي بالعموميّات ولا يسمّي المفسدين في الأرض بأسمائهم، لكون هؤلاء «محسوبين» أيضاً على الطائفة على الرغم ممّا يرتكبونه من محرّمات؛ أو تراهم يدخلون زواريب السياسة الضيّقة ويسعون إلى الحلول محلّ الساسة إذا شعروا بأنّ هؤلاء يفرطون في تغليب مصالحهم الشخصيّة على مصلحة «الجماعة» التي ينتسبون إليها. ولا يندر أن تقع عليهم يستقبلون المجرمين، ويؤاكلون البلاطجة، ويتسامرون مع مصّاصي الدماء، بدلاً من اللجوء إلى تدابير ملموسة تُشعر الناس بأنّ الكنائس تقف بلا التباس إلى جانب المقهورين والمستضعفين في الأرض، ولذا هي لا تسمح لذاتها، في أيّ حال من الأحوال، بأن تهادن السفلة وقطّاع الطرق. هذا يقتضي، طبعاً، اجتراح مقاربة لاهوتيّة وأخلاقيّة تختلف جذريّاً عمّا هو مألوف في الأوساط الكنسيّة اليوم. ويستوجب أن تنقّي المُؤَسّسة الكنسيّة ذاتها من الشوائب والموبقات ومظاهر الفساد المستشرية فيها على غير صعيد. 

لئن كانت هذه المفارقة ذات طابع سياسيّ وسوسيولوجيّ، إلّا أنّ ثمّة مفارقةً أخرى تتحكّم في سلوك معظم القادة الكنسيّين هي من طبيعة سيكولوجيّة، ومن ثمّ، فهي أكثر تعقيداً وأبعد غوراً. هذه المفارقة الثانية تتلخّص في أنّ هؤلاء غالباً ما يحملون في قيعان ذواتهم سياسيّاً «نائماً»، إذا جاز التعبير. ليس من باب المصادفة أنّ السيّد المسيح دعا تلاميذه إلى أن يكون «الأوّل» بينهم خادماً للجميع. كلام المسيح هذا يحيلنا إلى احتمالات السلطة في الكنيسة التي لا يندر أن تنزلق وتتحوّل إلى ضرب من ضروب التسلّط. الجوع إلى السلطة، المعرّضة لأن تتلبّس لبوس التسلّط، يجعل «رجل» الدين قريباً من السياسيّ بالنظر إلى وظائفيّة موقعه، إذ يضطلع بدور هو أشبه بدور السياسيّ وإن اختلف الحيّز الذي تمارَس فيه لعبة السلطة. لذا، ترى كثراً يقبلون على المناصب الدينيّة العليا في الكنيسة رغبةً منهم في أن يمارسوا أيضاً أدواراً سياسيّة. وغنيّ عن القول أنّ هذا التقاطع بين السياسيّ والدينيّ يتغذّى من المنظومة السياسيّة والذهنيّة التي تسبغ على القادة الدينيّين امتيازات ليست لهم في الأصل، وذلك بسبب الخلط بين الكنيسة، أو الانتماء الدينيّ بعامّة، والطائفة. 

ليس من النادر أن يستغلّ الساسة الممعنون في فسادهم عدم قدرة قادة الكنائس على رسم الحدود بين الكنيسة والطائفة ونزعتهم الخفيّة إلى أن يمارسوا دوراً سياسيّاً ما قد يكون علنيّاً أحياناً، لكنّه كثيراً ما يبقى، على أهمّيّته، قابعاً في الظلّ. ربّما يكون بعض أهل الدين في بلادنا أذكى من أهل السياسة. لكنّ الأكيد أنّ معظم الساسة هم أكثر مكراً من القادة الدينيّين وقادرون، تالياً، على إيقاعهم في حبائلهم.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها