السبت 2023/02/04

آخر تحديث: 13:08 (بيروت)

عن أمكِنة سعد يكن وكائناته

السبت 2023/02/04
increase حجم الخط decrease
لن أتطرق إلى عمل بعينه من أعمال الفنان السوري سعد يَكَنْ، في هذه المادة، بل تراني سأُجمل هذه الأعمال باعتبارها نصاً بصرياً واحداً، وإن كان حيّز المناقشة سيكون أوسع حيال مشهد مدينة حلب ومقاهيها. كما أني لن أدّعي الموضوعية إزاء مقاربتي لأعمال سعد من قريب أو من بعيد، فهو صديقي منذ حوالي عقد ونيف، والموضوعية في هذا المطرح ستكون محل بهتان ومواربة وخداع للذات. لكن هذا لا يقتضي أن تنطوي اللاموضوعية على المجاملة أو المحاباة، بل تراها تنطوي بالضرورة على اعتبار حكي هذا الفنان عن أعماله بمثابة تتمة لهذه الأعمال... لِمَ لا يكون الكلام امتداداً للوحة؟!
 
في تعليقه على الكلام الذي ينطلق من شغف، يسأل الأميركي هنري ميلر، السؤال الآتي: بقوة أية معجزة تحولتْ حمم الأرض الساخنة إلى ما نسمّيه الكلام؟ وكلام سعد يكن عن فنه يصل إلى حد الغليان. فلوحة الرجل هي في بعض متونها، أقرب إلى مزاج عام للرحيل، للمكوث، للثبات وللتيهان وللمكان هنا الحصّة الأوفر.

ليس المكان في أعمال سعد واقعة تخييلية أو مجرد مساحة تقوم على محض المجاز، فالمكان في هذه الأعمال هو امتداد لسعد بالذات، لذاكرته الحلبية ولِمَا تختزنه العيون من بقايا صور ولمحات. في القرن الخامس قبل الميلاد، كان الشاعر اليوناني سيمونيدس يقول إن الذاكرة هي حدث أخرجته اللغة من الظلمات... إنما لا شيء يمنع أن تُخرج الخطوط والألوان الذاكرة من الظلمات أيضاً. إنه ماضي الذاكرة العتيق الذي يرتق الحاضر الممزق لمدينة يعشقها سعد يكن إلى حد الشغف. والعتاقة، أيضاً بحسب لغة الإغريق، تعني من ضمن ما تعنيه، علّة الحياة، الإستهلال واستئناف البدء... ثمة من قال مرة إن كل حاضر مظلم غالباً ما يستنير بماضيه.

إن الدرس التأويلي الأبرز في مقاربة النصوص، والنصوص البصرية ضمناً، يقوم على المعادلة التالية: المتلقي هو منتج بدوره. فماذا عساي أن أُنتج لدى التطرق لأعمال سعد؟ الإنطباع الأول الذي غالباً ما يداخلني في ما يتعلق بأعمال سعد يكن، هو أن اللوحة في بعض ترتيباتها هي محاولة لدفع العالم كي يتماثل للشفاء، وفي البال بشكل خاص علاقة سعد بمدينته حلب.

في اللاتينية ثمة ترادف بين كلمة imago (صورة) وكلمة ossa (عظام)، لعل لوحة سعد يكن هي في بعض مآربها محاولة منه لترميم عظام المدينة التي يحب. أقول لعل، فإزاء أعمال هذا الفنان قد يكون التأرجح، لا البتّ التأويلي ضربا من الحكمة.

ثمة مَنْ يرى أن النصوص تحفل بفيض الإختلافات. وهناك مَنْ يرى أنها تحفل بفيض الدلالات. لكن عندما يتعلّق الأمر بالنص البصري الذي يقوم بشكل خاص على الذاكرة، فإننا عندئد إزاء نص رمزي بإمتياز... وهل أكثر مِن الرمز مَن يحفل بالكثافة والتنوّع وانفتاح الدلالة وهمس الكلمات. فتاريخ العين يستمد سرديته السريّة والمعلنة من الذاكرة، من تلك الأنا المتوارية خلف حجب الحنين والمأساة والفرح والألم... أيضاً وأيضاً، إنها حلب سعد يَكَن التي تستجلب هذه الكلمات.

ثمة شاعر أرجنتيني يدعى خوان خيلمان، قال في موت صديقه: عليّ أن أنظّف موتك كل ليلة. لعل صديقي سعد يمارس عبر لوحاته مهمة الشاعر الأرجنتيني نفسها، إنما حيال صديقته الحميمة حلب. فالفنان هو مؤرخ لكن من نمط آخر، مؤرخ بدائي مباشر وخارج إطار تقاليد التأريخ لأنه يستمد عدّته من الجذر الأول لكلمة history أي من الـistor وهي كلمة تعني الشاهد، الرائي، صاحب العين التي لا تنسى.


لا يدعونا هذا الفنان إلى أي ضبط بصري أثناء معاينة لوحاته، فظلال ناس هذه اللوحات تشي بأنها ستغادر الإطار، وألسنة الأمكنة فيها تردد أصداء كلمات الناس من كل حدب صوب، وعلى رأس كل هؤلاء المطرب الحلبي صبري مدلل، الموجود بوفرة في جملة أعمال سعد، فضلاً عن الصيادين والعازفين وغيرهم ممّن أسكنهم يَكَنْ فسيح لوحاته.

بالنسبة إلي، أنا اللاموضوعي بإطلاق، تراني أقرب إلى ما يشبه "الهدهدة البصرية" لدى تمعّني في أعمال سعد، أما مصطلح "الهدهدة البصرية" فيعود للفرنسي موريس دوبريه. فمعاينة العمل الفني بالإجمال لا تقتصر على محض التلقي، إنما فعل المعاينة هذا، فهو بالعمق هندسة للمرئي بما يتلاءم مع السردية الخاصة لكل منا كمتلقين. وصمت اللوحة في هذا السياق قد ينطوي على ابتكار لغة أخرى، على ابتكار عادات أخرى في النظر إلى العالم، يعني بالإجمال قد ينطوي على تملّك عين أخرى. إن اللوحة هي في بعض متونها، أرشيف للصمت كما يقول أهل الإختصاص، لكنها أيضاً قد تكون أداة استدعاء للكلمات، وبكل الأحوال هي تلك المساحة التي تؤرق عين الناظر وصولاً ربما لأن تودي به إلى تبني مقولة الفرنسي ماكس بيكارد: الوجه لا ينتمي إلى نفسه فقط... وغالباً ما أكابد ضبط نفسي منعاً للإستطراد لدى تناولي هذه الخبريات!

في كتابه "مدن لامرئية" يقول الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو إن المدن مثل الأحلام مكوّنة من رغبات ومخاوف. فأين يكمن اللامرئي في مدينة سعد يكن؟ أيضاً وأيضاً، ولأني من الكائنات الحية التي، فضلاً عن ذكرياتي الشخصية، أقتات على ذكريات الآخرين، فأنا أقرب إلى الإنصات إلى همس الذاكرة، ذاكرة سعد يكَنْ اللامرئية. تلك الذاكرة التي تستنجد بالخط واللون علّها تلقي القبض على ما قد مضى وولّى، على حلب الأزقة والشوارع والساحات وبشكل خاص حلب المقاهي والأمسيات الطربية.

يستهل المؤرخ جيرار لومير، كتابه عن مقاهي الشرق، بالقول إن الألغاز تحيط بالأصول التاريخية للمقهى في هذه البلاد، وقد أدّتْ تلك الألغاز إلى أسطرة بدايات المقهى، وهي أسطورة يجيد حبكها سعد يكن في لوحاته إلى حد التفرّد. 

إن نمط العلاقات التي يقيمها الفنان موضوع هذه المادة، مع تاريخ الأمكنة، يستمد وهجه من ذاكرة هذه الأمكنة، من تلاشيها، من اضمحلالها وربما أيضاً من أمل استرجاعها. واللوحة هنا هي سجل الأمكنة، سجل المقاهي، سجل المدينة سجل الأسطورة بالإجمال. ثمة من الأنثروبولوجيين من يرى أن المدينة هي مركز سياسات الذاكرة، ونص المدينة في هذا السياق، سواء كان من كلمات أو من خطوط وألوان، هو نص لا يمكن حسمه، وهو ما ينطبق إلى حد كبير على لوحة سعد يَكَنْ، حيث الظلال الموجودة بوفرة والتي تشي بالغياب، هي في آن معاً حضور كثيف، عين تحدّق، لسان ينطق وجسد مستلق فوق جدران الأهلين وجدران العزلة والجدران المتلاشية والتي تقع بين بين. فذكريات المدينة المبثوثة في هذه الأعمال هي بمثابة الوجبة الدسمة لمن يريد أن يستظل فيء الماضي وعتمة الحاضر والتي يبدو أنها آخذة في الإنسحاب بثقل إلى ما سيلي من أيام.

خاتمة  
جاء في التراث العربي قبل الإسلام أن الديك كان يمتلك حرفة الطيران، وهو ما لم يكن متوافراً للغراب، إلى أن خدع الغراب الديك وسرق منه الجناحين وطار، وكان ذلك عند الفجر، وما صياح الديك فجراً إلا نداء يطلقه هذا الديك المسكين علّ الغراب يعيد له الجناحين. 

لطالما تمثّلتُ تلك الديكة التي يبثها سعد يكن في لوحاته بمثابة أشخاص يبغون التحليق إلى الأعلى، إلا أن الخراب الذي عمّ أمكنة سعد يكن ومدينته، جعل الفضاء في تلك المدينة حكراً على الغربان. وما ينطبق على مدينة سعد يكن وأمكنته، ينطبق بالمثل على كل مدننا وأمكنتنا. ترانا نرفع عقيرتنا بالصياح مع إشراقة كل فجر، لكن الغراب، وقد أفرد سواد جناحيه الضخمين، لا يأخذ منا بالاً، بل لعلنا لا نتجاوز أن نكون وجبته في التالي من الأيام... 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها