الثلاثاء 2023/02/28

آخر تحديث: 11:17 (بيروت)

رقصت سالومة.. وطار رأس المعمدان

الثلاثاء 2023/02/28
increase حجم الخط decrease
في صيف 2002، طرحت دار سوثبيز، في مزاد علني، لوحة من توقيع روبنس، وبيعت هذه اللوحة بمبلغ 77 مليون دولار. وفي صيف 2016، طرحت لوحة أخرى لهذا الفنان، بيعت بمبلغ 58 مليون دولار. وفي الشهر الحالي، طرحت لوحة ثالثة، وبيعت بمبلغ 27 مليون دولار. تمثّل هذه اللوحة "مقتل القديس يوحنا المعمدان وتقديم رأسه إلى سالومة"، وفقاً لرواية الإنجيل التي استعادها الرسامون على مدى قرون من الزمن.


يحتلّ بيتروس باولوس روبنس موقع الصدارة في الفن الباروكي الذي شكّل امتداداً لعصر النهضة، ويمثّل في هذا الميدان الطابع الذي تميّزت به هذه المدرسة في البلاد الفلمنكية، وهي البلاد الهولندية الخاضعة للسيطرة الإسبانية في القرنين السادس والسابع عشر. وُلد الفنان في 1577 في مدينة زيغن الألمانية، في مقاطعة فاليا الغربية، في زمن في زمن الإمبراطورية الرومانية المقدسة للأمة الجرمانية، وكان والداه من أنتويرب، كبرى المدن الفلمنكية في بلجيكا. وبعد وفاة والده في 1587، انتقل مع والدته واخوته إلى مدينة كولونيا، ثم استقرّ في 1589 في أنتويرب، وفيها تلقّى تنشئة كلاسيكية، واتجه إلى باكراً إلى دراسة الفنون التشكيلية، وتتلمذ في محترفات كبار المعلّمين في هذه المدينة وهو في الرابعة عشرة من العمر.

من أنتويرب، انتقل روبنس، مطلع القرن السابع عشر، إلى إيطاليا ليكمل فيها دراسته، وحظي هناك برعاية الكاردينال اليساندرو بيريتى، أسقف مدينة مونتالتو، ودخل بفضله في خدمة الدوق فينشينسو الأول غونزاغا. أمضى الرسام الشاب ثمانية أعوام في إيطاليا، وأنجز في هذه الحقبة المبكرة أولى أعماله الكبيرة. وعاد إلى أنتويرب في 1609، واستقرّ فيها حتى 1621، وحصد خلال هذه السنوات النجاح والشهرة والمجد، وذاع صيته في أوروبا حيث عُرف بأسلوبه الخاص الذي تميّز بالألوان المثيرة وبتعبيريّته المتوهجة، فدخل في خدمة إيزابيلا كلارا يوجينيا، محافظة هولندا الاسبانية في البلد المنخفظة، وزوجة أربير السابع، أرشيدوق النمسا، وبقي في خدمتها حتى 1631، ثم استدعته ملكة فرنسا ماري دي ميديتشي إلى باريس ليرسم لها لوحاتٍ تمثّل محطاتِ حياتها المختلفة، وقامت بترقيته إلى رتبة النبلاء، كما أوكلته بالعديد من المهام الدبلوماسية في إسبانيا.

في قمّة المجد، عاد روبنس إلى أنتويرب في 1630، وبات الرسام الرسمي في بلاط البلاد المنخفضة الإسبانية في 1636، وتابع العمل بشكل متواصل إلى أن توفّي في صيف 1640، تاركاً عدداً عائلاً من الأعمال الفنيّة في أنحاء القارة الأوروبية.

أنجز الفنان لوحة "مقتل القديس يوحنا المعمدان وتقديم رأسه إلى سالومة" في 1609، خلال أقامته في إيطاليا، واستقرّت هذه اللوحة القصر الملكي الاسباني بين 1666 و1700، ثمّ انتقلت إلى مجموعات خاصة في فرنسا، إلى أن وصلت إلى نيويورك في 1998. وتنقلت هناك بين مجموعات خاصة، إلى أن بيعت مؤخرا في دار سوثبيز.

بحسب رواية الإنجيل، كان يوحنا المعمدان ناسكًا زاهدًا، وكان يدعو الناس إلى التوبة، ويعمّد التائبين في نهر الأردن. عند هذا النهر، بدأ المسيح مسيرته، إذ جاء "من ناصرة الجليل واعتمد من يوحنا في الأردن. وللوقت وهو صاعد من الماء رأى السماوات قد انشقت، والروح مثل حمامة نازلاً عليه. وكان صوت من السماوات: أنت ابني الحبيب الذي به سررت" (مرقص 1: 9-11).

حدث ذلك في عهد "هيرودوس رئيس الربع"، كما يقول الإنجيل. والمقصود هيرودوس أنتيباس، ثاني ملوك عائلة هيرودوس الكبير، الذي حكم ربع فلسطين، أي الجليل وشرق الأردن، وساكن هيروديا زوجة أخيه فيليبس، فوبّخه يوحنا على فجوره. ولهذا، حنقت هيروديا على يوحنا، "وأرادت أن تقتله ولم تقدر، لأن هيرودوس كان يهاب يوحنا عالماً أنه رجل بار وقديس". وبعد فترة وجيزة، حلّ عيد ميلاد الحاكم، وأقيمت حفلة عشاء كبيرة في هذه المناسبة حضرها أسياد الجليل، ورقصت ابنة هيروديا من زوجها الأول في هذه الحفلة، فأعجب بها هيرودوس، وقال لها: "مهما طلبت مني لأعطينك حتى نصف مملكتي". فخرجت وسألت أمّها: "ماذا أطلب؟"، فردّت: "رأس يوحنا المعمدان". فدخلت الإبنة إلى الملك وقالت له: "أريد أن تعطيني حالا رأس يوحنا المعمدان على طبق". فحزن، غير أنّه لم يشأ أن يردّها، فأرسل سيّافا، فمضى وقطع رأس يوحنا في السجن، "وأتى برأسه على طبق وأعطاه للصبية، والصبية أعطته لأمّها" (مرقص 6: 18-28).

لا تذكر الأناجيل اسم الصبية التي رقصت في الحفلة، وهي سالومة بحسب المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس الذي نقل هذه الواقعة. شاع هذا الاسم في العهد المسيحي المبكر، حيث افتتن الرواة بقصة استشهاد يوحنا المعمدان واستعادوها، بعدها وجدت هذه القصة ترجمتها التشكيلية في عدد لا يُحصى من الأعمال، تعددت فيها الأساليب وتنوّعت بشكل كبير. تمثّل لوحة روبنس النسق الذي ساد في عهد الفن الباروكي، حيث تأنسن الفن بشكل جذري، وتحوّل إلى فن درامي بامتياز. يظهر السياف في المقدمة وهو يطأ بقدمه اليمنى القديس الملقى أرضاً بيديه المقيّدتين بالسلاسل، وتظهر سالومة من أمامه وهي تتلقّى رأس الشهيد على طبق فضي، مشيرة إليه بيدها اليمنى. يحضر في الخلفية أربعة شهود، وهم امرأتان ورجلان يحتلّون المشهد الخلفي من الصورة.

يتجلّى أسلوب روبنس في تصوير جسدَيّ القديس والسياف العاريين، كما في تصوير سالومة بوجهها النضر وبلباسها الأنيق. يحضر كل شاهد من الشهود الأربعة بحلّة خاصة به تضفي للعمل رونقه الخاص. في المقام الأول، تبرز اللوحة بطابعها المأسوي الصارخ، وهو الطابع الذي يظهر في كل الأعمال التي تصوّر آلام المسيح والقديسين في هذه المرحلة، بخلاف ما نراه في القرون الوسطى.

أشار أوجين دولاكروا إلى هذا التحوّل الجذري في دفاتر يومياته حيث كتب معلّقاً: "في منأى عن روحنة الشكل، كما القدامى، إنّما أنسنت المسيحية الشكل، فضاعفت مأسوية الأشكال وبؤسويّة التعبير حتى المبالغة، وظنّت إنها بذلك تدخل إلى روح تعليمها، أي إلى عبادة إله تجسد وصار إنساناً، حاملاً كل تعاساتنا، وممّرغاً بالعذابات. كذلك حدث بالنسبة إلى الشهداء".

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها