الإثنين 2023/02/27

آخر تحديث: 11:22 (بيروت)

حكم البابا ونزيه أبو عفش.. بين الوقاحة والرمادية

الإثنين 2023/02/27
حكم البابا ونزيه أبو عفش.. بين الوقاحة والرمادية
increase حجم الخط decrease
أثارت وفاة الكاتب السوري حكم البابا، موجة عاصفة من الانقسامات في مواقف المثقفين، وجمهور المعارضة والنظام والناشطين في وسائل التواصل، وتباينت الآراء على نحو حاد بين من يمتدحه ويثني على مسيرته، وخاصة تأييده للثورة السورية، وبين من يشكك في وجاهة ذلك، ويذمّه ويعدّه طائفياً وكائناً يفتقد إلى الكياسة والتوازن النفسي. وهناك من حاول أن يقف وسطاً بين الطرفين ينتقد البابا بسبب بعض المواقف، ويمتدحه في أماكن أخرى، ويبدو هذا التيار، رغم ما يحاول أن يبديه من عقلانية، أقرب ضمنياً إلى إيجاد تبريرات لما ينتقده الآخرون لدى البابا، وبعضها سلبيات فاقعة لا يختلف عليها اثنان.

واللافت أن الاختلاف بين التيارين الرئيسيين خرج عن ضوابط الحوار، ووصل حد تبادل الشتائم والاتهامات. وتلك مسألة تتجاوز البابا، لتعكس احتقاناً ينفجر بقوة كلما وجد مناسبة للتنفيس، ما أعاد إلى الأذهان الانقسامات من حول الشاعر نزيه أبو عفش، بسبب موقفه غير المؤيد للثورة السورية، مع أنه لم يكن الوحيد، ذلك أن المثقفين السوريين لم يقفوا على المسافة نفسها، وعلى الدرجة ذاتها من الثورة، فالبعض كان حاسماً في تأييدها منذ الأيام الأولى وساند الحراك المدني بقوة، والبعض الآخر تأخر قليلاً، لكنه حدد موقفا ضد النظام في وقت لاحق، وعلى الضفة الأخرى هناك من انحاز إلى صف النظام علانية، وبين هذا وذاك وقف الرماديون، الذين لم يختاروا صف أحد، وبعض هؤلاء يعيش داخل سوريا وخارجها، ولكل منهم حساباته ومبرراته وأسبابه التي جعلته يتأرجح، ولا يسجل على نفسه أي موقف أو رأي. وبين هؤلاء من كان مؤيدا بقوة للثورة أو النظام، لكنه تراجع بعدما أخذت التطورات منحى آخر.

إن الحديث عن البابا وأبو عفش ضمن هذه المساحة لا يهدف إلى تصنيف موقفيهما في المرتبة ذاتها من الزلزال السوري، ولا مما سبقه من قبل ذلك، فهما مختلفان إلى حد كبير، ولا يجمع بينهما سوى الكتابة. شاعران من جيلين مختلفين، الأول من جيل الثمانينيات، والثاني من جيل الستينيات. وبينما بقي أبو عفش منصرفاً للشعر وقليلاً من الرسم وكتابة المقالات، اقتحم البابا عالم الكتابة الدرامية وأصبح نجماً خلال فترة وجيزة. ويعد أبو عفش أبرز أصوات جيله الشعري السوري، الذي ركز كثيراً على قصيدة النثر، وتطور أسلوبه في الكتابة، وتميز بذلك عن أبناء جيله الذين لم يعطوا الشعر الوقت الكافي، بسبب عمل غالبيتهم في التعليم والصحافة الثقافية مثل بندر عبد الحميد، وإبراهيم الجرادي، وعماد الجنيدي.

لم يكن البابا على مستوى أبو عفش شعرياً، لكنه تميز أيضاً، وحظَي باهتمام بين جيله الشعري، ليس بمقدار رياض الصالح الحسين، الذي كان أكثر أبناء جيل الثمانينيات شهرة، رغم أنه رحل في سن مبكرة العام 1982، وهو ما زال في بداياته. وساهمت الكتابة الدرامية بتسليط الأضواء على البابا كشاعر، بعدما برع فيها ككاتب مسلسلات اجتماعية نقدية تحت السقف الذي كان مسموحاً به من قبل النظام السوري في زمن الرئيس حافظ الأسد، فقد أنتجت له "شركة شام" المملوكة من قبل باسم عبد الحليم خدام أعمالاً عديدة، وكانت تربطه علاقة خاصة بهذه العائلة، استمرت حتى بعد خروج خدام من سوريا وإعلان انشقاقه عن النظام.

هناك قاسم مشترك بين أبو عفش والبابا هو، أنهما قريبان من المعارضة السياسية اليسارية، التي تراوحت مواقفها من الثورة بين الجذرية والوسطية والرمادية، وفي شبابه انتمى أبو عفش للحزب الشيوعي، لكنه غادره باكراً في بداية السبعينيات، حينما حصل الخلاف داخل الحزب بين الأمين العام خالد بكداش، ومجموعة قادت انشقاقاً من أبرز رموزها رياض الترك. ومن بعد ذلك لم يقترب أبو عفش من تيار سياسي محدد، لكنه بقي نقدياً وحاداً، ما عرّضه لمشاكل وصلت في بعض الأحيان إلى الاعتداء الجسدي من قبل عناصر أمن. ولذلك كان صادماً لمن عرفوه من كثب أن يقف ضد الثورة، ويتطرف في بعض مواقفه إلى تأييد التدخل الروسي، الذي بدأ بمجازر ضد المدنيين السوريين، ولم يفرق بين من يحمل سلاح ومدني، أو بين موقع عسكري لخصوم النظام أو مشفى ومدرسة.

لم يبحث من خاصموا أبو عفش في خفايا موقفه، واكتفى هؤلاء بأن عدّوه انتهازياً. وهذا تفسير سهل، لا يستوي مع المنطق، فالانتهازية التي هبطت على أبو عفش في ذلك الوقت، كان في وسعها أن تنقذه من مواقف صعبة واجهها في السابق، لكنها لم تخطر في باله. وهذا أمر لا بد أن يحرضنا في البحث عن أسباب مقنعة للتحول الدراماتيكي في موقفه من النظام، الذي كان يتحدث عنه في مجالسه على نحو قاس، وكرس قسطاً كبيراً من شعره لهجائه.

لم يفصح أبو عفش عن سبب تحول موقفه، على عكس البابا، الذي لم يجامل أحداً، فهو صريح جداً في تطرفه إلى حد أنه كتب في صفحته في فايسبوك، يدافع عن تنظيم داعش الإرهابي، ولم يحد من جموحه أن غالبية الخصومات التي عاشها، والنقد الذي تلقاه، حصل بسبب مواقفه الطائفية، بل كان يشعر بالغبطة، ويفاخر ويعتز بهذه المسألة التي تطورت لديه من وجهة نظر، لتصبح حالة مرضية لا ينفرد بها لوحده، بل هي شائعة إلى حد ما، وزاد منسوبها تبعاً لمجريات الوضع السوري وتدخل إيران في مجرياته وتوظيف الطائفية كسلاح أساسي منذ البداية، وتفاقمت أكثر بعدما زجت بحزب الله والميلشيات الشيعية من العراق وأفغانستان وباكستان.

لكن مواقف البابا الطائفية سابقة لذلك، ولا أدعي أني أعرف جذورها، مع أني أعرف كثيرين في صف اليمين واليسار، يشاركونه هذه الحالة التي حاول البعض أن يعزو أسبابها لدى البابا إلى كونه يتحدر من مدينة حماة، التي تعرضت الى مجزرة كبيرة العام 1982.

أكثر النقاط التي أثارت جدلاً بخصوص البابا، هي الطائفية، التي أجمعت عليها غالبية منتقديه، وكما أشرنا فإنها أصبحت من بديهيات الحالة السورية، بعدما تبادلها الجميع، وهذا ما لخصه الكاتب الساخر، خطيب بدلة، حين كتب إن طائفية البابا ليس حالة فريدة، بل شائعة في صفوف المعارضة، لكنه كان أكثر وقاحة في إعلان موقفه، وهذا لا يعني أن بقية الأطراف حمائم سلام.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها