الإثنين 2023/02/27

آخر تحديث: 11:06 (بيروت)

"كل شيء في كل مكان".. هل يستحق الضجّة؟

الإثنين 2023/02/27
increase حجم الخط decrease
- مورتي: ريك، ماذا عن الواقع الذي تركناه وراءنا؟
- ريك: وماذا عن الواقع حيث عولج هتلر من السرطان؟ فقط لا تفكرْ في الأمر يا مورتي
(من مسلسل "ريك ومورتي"، الموسم الأول، الحلقة السادسة).

 

في خضم تسارع التطورات التكنولوجية ووسائل الاتصال الإنساني وعولمة الأذواق، لم يعد من المستغرب بعد الآن وصول مفردات وتمثيلات الطحن اليومي إلى الكون المتعدد Multiverse، ذلك الامتداد الأُسّي من الميتافيرس. لا أعرف ما إذا كان تعريف المصطلح الأخير ضرورياً الآن بما أن الكاتب الأميركي نيل ستيفنسون قدّمه قبل أكثر من 30 عاماً في رواية خيال علمي بعنوان "تحطّم الثلج"، وفيها يتفاعل البشر مع بعضهم البعض ومع برامج مؤنسنة (أو تجسّدات مُبرمَجة) في فضاء افتراضي ثلاثي الأبعاد، ضمن حبكة تشمل موضوعاتها التاريخ، واللغويات، والأنثروبولوجيا، وعلم الآثار، والدين، وعلوم الكومبيوتر، والسياسة، والتشفير، وعلم الذاكرة، والفلسفة.

منذ ذلك الحين، جرت مياه كثيرة تحت الجسر وأصبحت فكرة العالم الموازي القديمة ابنة السنوات الذهبية للخيال العلمي (وروايات فيليب ك. ديك)، المسمّاة الآن فكرة الأكوان المتعددة، ضائعة أكثر فأكثر في الميتافيرس، بعدما أصبحت الرقمية والرقمنة أكثر فأكثر واقعاً وأفلاماً، كما في سلسلة أفلام "ذا ماتريكس" و"ريدي بلاير وان" (2018، سبيلبيرغ) ونسخة الأنيميشن "سبايدر مان: إنتو ذا سبايدر فيرس" (2018)، فضلاً عن سبايدر مان "الحقيقي" في فيلم "سبايدر مان: نو واي هوم" (2021؛ وأخيراً وليس آخراً، كما في ذلك المسلسل المأخوذ منه الاقتباس الافتتاحي، "ريك ومورتي"... وكلها أعمال جعلت فكرة أن هناك أكثر من حقيقة، وبالتالي أكثر من شخصية واحدة لذواتنا، حقيقية للغاية ومقنعة ومذهلة. ولأن ألعاباً مثل "فورتنايت" (التي أمكن مؤخراً من خلال فضاءاتها الافتراضية التبرٌّع إلى أوكرانيا) تُظهر أن الأجيال الشابة، على الأقل، قد وصلت منذ فترة طويلة إلى الميتافيرس (من قبل أن يفكّر مارك زوكربيرغ في غزوه)، وبالتالي أمكنها اختبار تجارب الكون المتعدد الكلاسيكية.

كل هذه الأمثلة السابقة "رحلات بطل" كلاسيكية بطريقة أو بأخرى في نهجها السردي الأساسي، رغم إنها بعيدة كل البعد من تجربتنا اليومية. يقدّم المخرجان الأميركيان دانيال كوان ودانيال شاينرت (المعروفان اختصاراً باسم الدانيلز) مدخلاً مختلفاً نسبياً، استناداً إلى حياتنا اليومية، في لعبتهما الذهنية السينمائية "كل شيء في كل مكان في وقت واحد" (*)، حيث يختبران الفكرة متعددة الجوانب ويكيّفانها لملاءمة الحياة اليومية. قد يبدو هذا قريباً من الفكرة الأساسية لفيلمهما الأول "رجل الجيش السويسري" (2016)، عندما حاولا استكشاف حدود الوحدة الإنسانية بطريقة كانت غريبة بقدر ما كانت شاعرية من خلال إعادة رجل ميّت إلى الحياة. في فيلمهما الجديد ومفاجأة موسم جوائز هذا العام، لا يختلف الأمر كثيراً، فهنا أيضاً يتم إحياء الموتى، لكنهم الأموات بداخلنا، أو بعبارة أخرى كل تلك الشخصيات العديدة التي نختزنها بداخلنا ونسمح لها بالظهور فقط إذا دُفعنا إلى مواقف معيّنة أو التقينا بجديد لا نعرفه قبلاً. نصير أشخاصاً مختلفين تماماً عن الصورة التي نعرفها عن أنفسنا.

أو كما يحدث في "كل شيء في كل مكان في وقتٍ واحد"، تجد صاحبة المغسلة المتعثرة، إيفلين وانج (ميشيل يوه)، نفسها قد تحصّلت فجأة على فرصة لتغيير واقعها مثلما تغيّر حذاءها كل صباح. إذ يمكنها إبدال حياتها اليومية غير السعيدة مع زوج سلبي وأبّ متطلّب وابنة منشقّة، فقط إذا فعلت شيئاً غريباً يعمل مثل محفّز سحري للدخول في عالم آخر وشخصية أخرى. أولاً من دون تحكُّم منها ثم بمرور الوقت تزداد قدرتها على التحكّم في سير الأمور، تنتقل إيفلين من فسيفساء إلى أخرى داخل الكون المتعدد، من أجل أن تدرك عبر عملية تطهّرية لاهثة أن كل شيء ولا شيء مرتبط ببعضه البعض، وأن كل موقف جديد (أي كل عالم موازٍ جديد) يحيلها شخصاً جديداً، شخصاً معرضاً للخطر أيضاً، وبطرق مختلفة دائماً.


كل هذا جميل وممتع ومجنون، لكن المحبط أنه، على عكس أفلام الأكشن المذكورة أعلاه، لا مقاطع قتالية هنا، رغم حضور ميشيل يوه بطلةً للفيلم، وهي واحدة من أشهر نجمات سينما الحركة والفنون القتالية في شرق آسيا في الثمانينيات والتسعينيات (حيث عملت كبطلة مساعدة لجاكي شان)، والتي حققت اختراقاً في نجوميتها على الصعيد الدولي من خلال دورها كعميلة صينية في فيلم جيمس بوند "الغد لا يموت أبداً" (1997)، ثم تحوّلت لاحقاً بشكل متزايد إلى اختيار أدوار متنوعة.

صحيح أنه بعد ذلك تستطيع يوه استغلال انسيابية هذه الشخصية بالكامل في الفيلم الممتد لـ139 دقيقة، عبر تقمّص أدوار متعددة، إلا أن هنا تحديداً تكمن مشكلة الفيلم الكبرى: طوله الزائد والإمكانات العديدة للشخصيات المتعددة التي تصبحها بطلته. لأنه مع كل قفزة إلى شخصية جديدة، عالمٍ جديد، والتي ترمينا بالطبع في مزاج ونوع فيلمي جديد، هناك وقت أقل لتطوير الشخصيات، فنحن لا نملك رقماً أو تعداداً للحيوات الممكنة، وإنما مع كل قفزة تنقص حياة. نتيجة لذلك، في النهاية لا يستطيع الفيلم سوى رواية قصة واحدة بشكل كامل (وهي قصة المَغسلة وصاحبتها وحياتها البائسة)، فيما تصبح كل "الزيارات" الأخرى مملّة أكثر فأكثر وتغرق في دوّامة متناقضة بشكل متزايد من التحصين والشكلانية الأوركستراليين والبصريين.

إنه أحد الأفلام الرائجة للعام 2022، مع مراجعات إشادة عديدة، ومناداة به كإجابة سينمائية بليغة لعالم مارفل السينمائي وأكوانه المتعددة، وحفنة من الترشيحات والجوائز. لكن الحقيقة أنه بخلاف بعض العناصر المُلهمة، وبعض الاقتراحات والنتائج البصرية، والمساهمة الرائعة دوماً للأسطورة ميشيل يوه؛ فالنتيجة النهائية لهذا المزيج من تراكم محفّزات وإمكانات تفضي إلى نزوات وفوضى. ففي حين يداوم الفيلم على إبقاء المتفرج متمسكاً بمشاهدته والاستمتاع بما يراه، إلا أنه دائماً ما يكون مزعجاً في خلاصاته التقليدية جداً (العائلة مهمّة والحبّ مهمّ والصداقة مهمّة)، وربما يكون فيلماً أفضل بكثير بنصف ساعة أقصر وعدد أقل من الأرواح والشخصيات. والحال أنه في صورته التي ظهر بها، يبقى رحلة مخدّرة مجنونة تميل في بدايتها إلى التجربة و"الروشنة"، ثم بعد ذلك تتركك مرهقاً ومحبطاً. أو كما قال ريك لمورتي بعد اكتشاف الأخير لوجود الأكوان المتعددة، "فقط لا تفكر في الأمر يا مورتي".

 

(*) تصدّر الفيلم سباق ترشيحات أوسكار 2023 بحصوله على 11 ترشيحاً، من بينها أفضل فيلم وأفضل إخراج.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها