الأحد 2023/02/26

آخر تحديث: 07:38 (بيروت)

مات يوحنّا زيزيولاس

الأحد 2023/02/26
مات يوحنّا زيزيولاس
رأى زيزيولاس أنّ فكرة الوجود، كما طرحها العقل الفلسفيّ اليونانيّ، نفثت فيها المسيحيّة روحاً جديدة
increase حجم الخط decrease
قبل نيّف وثلاثة أسابيع، وعلى وقع الحرب الدائرة في أوكرانيا وقبيل موجة الزلازل في شرق المتوسّط، رحل يوحنّا زيزيولاس (١٩٣١-٢٠٢٣). برحيل مطران برغامة، الأسقفيّة المسيحيّة البائدة في آسية الصغرى، تسقط إحدى أواخر حبيبات السبحة، سبحة اللاهوتيّين الذين صنعوا الفكر الأرثوذكسيّ العملاق في القرن العشرين. تتلمذ زيزيولاس على العظيم جورج فلوروفسكي (١٨٩٣-١٩٧٩)، وكان حتّى أواخر سني عمره يسمّيه «معلّمنا الكبير». ما سرّ الخيط الذي يربط بين الكاهن الروسيّ الذي وُلد لأمّ أوكرانيّة وترعرع في أوديسا الجميلة، من جهة، والتلميذ النجيب، سليل الأغارقة، الذي سيمهر الحوار الكاثوليكيّ-الأرثوذكسيّ بخاتمه بوصفه، منذ مطلع الثمانينات، أبرز اللاهوتيّين الأرثوذكس، من جهة أخرى؟

قال الأب فلوروفسكي بضرورة إنشاء «توليفة» أرثوذكسيّة آبائيّة جديدة. هو لم يتبسّط يوماً في شرح هذه الفكرة على نحو جامع مانع. لكنّ ما نعرفه ليس بقليل. لقد أقلقه إقبال اللاهوت الروسيّ قبل ثورة البلاشفة على مناهج اللاهوت الغربيّ ومقولاته، إذ رصد فيه ابتعاداً عن منابع فكر آباء الكنيسة قبل سقوط القسطنطينيّة (١٤٥٣)، وتغرّباً عن مقاربة لاهوتيّة تجمع بين الفكر والحياة. لم يدعُ فلوروفسكي إلى التقوقع والانغلاق. بعض الذين عدّوا أنفسهم تلامذته تزمّتوا في فهمه إلى حدّ المغالاة. كان هاجسه أن يبقى اللاهوت الأرثوذكسيّ في حوار خلاّق مع الغرب. لكنّه أراد أن يتّسم هذا الحوار بالندّيّة. فالتبعيّة، أي تبعيّة، تُبطل فكرة الحوار. ولكن تبقى النقطة الخلافيّة الأبرز في فكر فلوروفسكي هي زعمه أنّ المسيحيّة، في تلقّفها الفكر الهلّينيّ واستدخاله، أنتجت ثوابت فلسفيّةً ولاهوتيّةً تصلح لكلّ زمان ومكان ولا يمكن مساءلتها أو المسّ بها. 

هذه التوليفة اللاهوتيّة التي طالب بها فلوروفسكي، وسعى طوال حياته إلى قيامها، كان يوحنّا زيزيولاس يعتبر أنّه حقّقها في فكره. على غرار معلّمه، كان أسقف برغامة يعتبر أنّ الفكر الغربيّ الحديث، على الرغم من انزياحاته الكثيرة، ما زال يدين للفلسفة اليونانيّة بأفضل ما عنده. فانكبّ على مدّ الجسور إلى هذا الفكر بالاستناد إلى ما كان يحسبه المساهمة الفلسفيّة الأبرز للمسيحيّة، أي مقاربتها للشخص، كما عبّر عنها المفكّرون المسيحيّون في القرن الميلاديّ الرابع. هكذا رأى زيزيولاس أنّ فكرة الوجود، كما طرحها العقل الفلسفيّ اليونانيّ، نفثت فيها المسيحيّة روحاً جديدة حين اعتبرت أنّ الوجود، سواء في الله أو لدى البشر، جوهره شخصانيّ، أي إنّه يقوم على بعد علائقيّ قوامه الارتباط بالآخر. ومن ثمّ، الكائن البشريّ ليس موجوداً أوّلاً، ثمّ هو في علاقة مع آخرين ثانياً، بل إنّ وجوده من حيث جوهره وآليّات تحقّقه يستوجب بالضرورة العلاقة بالآخر في تشابهه واختلافه. بكلمات أخرى: هويّة الشخص لا قوام وجوديّاً لها خارج مقولة العلاقة. وعند زيزيولاس أنّ هذه الهويّة لا تتحقّق إلّا عبر التآزر بين ديناميّتين هما الحرّيّة والمحبّة. فهاتان كفيلتان بأن تعتقا الشخص من خضوعه لمأزق الدورة البيولوجيّة التي تنتهي بالموت، وتحمل تالياً في ثنيّاتها القدرة على أن تقذف بالشخص إلى متاهة تحوّله إلى مجرّد كيان متقوقع على ذاته ومصاب بداء الفردانيّة المفرطة. 

غنيّ عن القول أنّ هذا الفكر المشبع بالحسّ الفلسفيّ ليس مجرّد تكرار ببغائيّ لفكر آباء الكنيسة ولاهوتيّيها الأقدمين، ولا هو بطبيعة الحال استنساخ لفكر الفلاسفة المعاصرين الذين جعلوا من الشخصانيّة قواماً لمقاربتهم الفلسفيّة. لقد حاول يوحنّا زيزيولاس عن حقّ أن يكون أميناً لفكرة معلّمه فلوروفسكي، الذي صبا إلى تناضح حقيقيّ بين التراث والمعاصرة على قاعدة الحوار والندّيّة. هل نجح زيزيولاس في ذلك؟ في مؤتمر علميّ عُقد العام ٢٠١٠ في فولوس من أعمال اليونان، خاض أسقف برغامة نقاشاً هادئاً مع لاهوتيّين حديثي السنّ نسبيّاً عن موقع الفلسفة اليونانيّة، والفلسفة عموماً، في عالم اليوم. هل ما زالت هذه نواة الديناميّة الثقافيّة؟ أليست هذه الديناميّة ترتكز على علوم إنسانيّة أخرى كعلمي الاجتماع والسياسة، وتنهل من ينابيع أخرى كالأدب والفنّ والسينما والمسرح؟ أليست هذه المساحات الثقافيّة الأخرى تمجّ السرديّات الكبرى وتستكره اللغة الأنطولوجيّة وتستعيض عنها بمقاربات أقرب منالاً وأكثر التصاقاً بالحياة اليوميّة؟ بقي السؤال سؤالاً يومذاك. لكنّ أيّ تقويم لفكر يوحنّا زيزيولاس اليوم لا بدّ له من أن يتدبّر هذا السؤال مهما يكن صعباً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها