الجمعة 2023/02/24

آخر تحديث: 12:22 (بيروت)

النوم الذي يسرقه الموت في الزلزال

الجمعة 2023/02/24
النوم الذي يسرقه الموت في الزلزال
الاحتفال بطفلة ناجية في شمال سوريا
increase حجم الخط decrease
"إنها خشنة، لكنها أمّ الرجال وأحلى أرض عندي"
- هومر

لم تتكاثف صور الموت التقليدية لدى السوريين بعد الزلزال. أقدم الإرهاصات والتمثلات التي نعرفها عن صور الفواجع والموت، اختفت تقريباً. النساء اللواتي يندبن، ويلطمن خدودهن ويغمرن أنفسهن بالتراب، لم نشاهدها، أو لم يتم التركيز على تلك المشاهد. ولا حتى مجالس عزاء بوجوه حبيسة القهر. كان الصمت المُرتاب والقلق الهائل على النفس مانعاً لتشكلات الحزن أو التضامن المتوقع لأشكال البكائيات.

شيء من هذا لم يطفُ بكثافة اذاً، اختلط الرعب والقلق بحزن عميق الأثر واختفاء ذاتي شخصي لكل المعنيين في هذا الموت. ولم تظهر سمات التضامن السوري المُعتاد من مجالس العزاء، وتغطية لصور الحزن الجماعية. الحزن بصفاته الثقافية الجماعية يحمل شكلاً ما من الأمان الاجتماعي. استعيض عن تعبيرات الحزن وسلوكه الجمعي بانطلاق الأفراد لمساعدة الضحايا أو إطعام الناجين، أو محاولات إشهارية عبر الميديا لمساعدة طالبي المساعدة بشتى أنواعها. ساد صمت فوق الجسد الخائف وقدراته على تمثل نفسه حزيناً أو تمثل ذويه للحزن. شيء أسطوري من البحث عن الجثث لدفنها، وعن البشر لإطعامهم. بين المقتولين وجوع الناجين دار كل شيء، لم تلتقط الصورة البشر إلا مَن استعرض شخصه وهو يُطعم نازحاً أو يُنقذ ناجياً.

شيء من التعبير الكتابي طفا على معرفتنا التقليدية والبديهية التي اعتدناها عن لغة الصور والأجساد والتفاصيل الحزينة. عاد تأويل النصوص والإحساس بالجحيم أثناء قراءتها، يُشكل بعداً جديداً لضرواة المكتوب، خلافاً للصورة التي طغت عليها الأبنية المنهارة والأجساد المُنتشل ملونة بالأبيض والأحمر. بالأصل ما يُمكن حفظه من تاريخ الزلزال، المصدر التاريخي الصامت، أي الأبنية المنهارة والشوارع التي اختفت. للتاريخ مصادر صامتة كالمعالم الأثرية القديمة، الرموز ورسوم الجدران، لكن لتاريخ الزلزال صور الأبنية من دون البشر احتراماً وشغفاً في أن يكون الإنسان الناجي أهم من المدفون، وأن الرائي لمقاطع الدمار وصور البيوت سيكون في صدمة الصمت أكثر من رؤيته لأشكال البشر التي انتفت وطُحنت. للزلزال مصادره الصامتة. حتى الناجي في مناطق النظام لم يتم الاحتفال به، خلافاً للمناطق التي لا تخضع للنظام والتي احتفل فيها أصحاب "الخوذ البيض" احتفالاً هائلاً بكل ناجٍ. كثيرٌ من طلب الموت يكون أوضح في مناطق سيطرة النظام السوري. كانت مفارقة أن النظام لم يسارع أبداً إلى عرض الناجين من بين الأنقاض، باحتفالية، خلافاً للأتراك والمناطق غير الخاضعة للنظام، حيث الاحتفال بالبشر هَوَسيّ.

بالأصل يملك الجسد السوري مواسمه في الصور والتي شكلت تاريخاً مُرعباً له. صور برد أصحاب الخيم في لبنان وتركيا، وحتى في الداخل أيضاً، ضمن البيوت في الشتاء، ويملك تجفاف الأجساد في الصيف وصور المسمرّين تحت الشمس والخلاء بغلظة وقهر. في هذا كله، تبدو القضية السورية، قضية دنيئة ومغلقة تحمل من الآلام المُصورة ما يبدو فيه الإنسان عاجزاً عن فعل أي شيء.



عشر سنوات وأكثر من عراء الجسد السوري، اندفعت تلك السنوات في مختلف أشكال التعبير لتصوير كل الآلام التي من الممكن أن يلحظها العقل أو تنشئها المخيلة وهي تلاحق أجساداً تُقتل، تُنتهك، تُعذب، تُدفن، تبرد، وتحترق. لم يتبقّ ما يُمكن تخيّله عن هذا الجسد.

"مابدي الا نام عمخدتي وببيتي أو بخيمة بس بدي نام بأمان"

هذه الجملة ملخص لحياة السوري وأحلامه، جملته الروائية الأكثر عمقاً وتأثيراً واستكانة، أن يكتفي في حلمه بالنوم فقط، من دون أي فكرة ضاغطة جديدة. لا ثورة ولا عدالة ولا أي مطلب يعرّضه لخطر القمع. اليونانيون القدماء جعلوا النوم والموت أخوين (hypnos)، (thanatos) الأول هو النوم، والثاني هو الموت. النوم، الأخ الأكثر إلحاحاً في التقرب منه على مستوى سوريا، النوم بصورة الخيمة، بصور البيت مُسبق الصنع، حتى أننا نملك صوراً لسوريين ناموا في المغارات والعراء. حتى سوريي الداخل المهانين بعيشهم وفقرهم يكتفون بعبادة النوم الهانئ بلا خوف. النوم في أي مكانٍ بلا ضجيج الأجساد أو متطلباتها الإنسانية، كان الوجه الأكثر غزارة للسوري. لكن Thanatos أيقظهم هذه المرة ولم يوقظهم كأخ لنومهم، بل كعقاب على استكانة رجاء النوم وعبادته. آلاف السوريين الهاربين إلى تُركيا عوقبوا على إيمانهم بالاستكانة من نظام وحشي، وملايين السوريين الفقراء في الداخل والخارج علموا أن كل صور ذلهم كانت قد تلاشت، أمام حاجتهم لأن يكتبوا من جديد أو يتفوهوا ذوات أمواتهم وأحزانهم.

لقد اختفى المُصور، والفنان أيضاً،(المُصوِّر والمصوَّر). مَن كان يقف خلف اللوحة مسّه Thanatos، اختفى الإنسان المُصوِّر وناقل الحدث لأنه يُريد أن ينجو، وعاد الإنسان إلى أقصى ذاتويته ليدافع عن نفسه. الصورة الجديدة خفية، شهودها الصنمُ المهدود، والحجر الذي يغطي الطرق والجثث. إن تصور الذات بدلاً من الذات المدفونة، جعل الصمت واللغة يعيدان إنتاج تصوراتهما، عاد السوري ليظهر في الكلمات والجُمل، لا وقت لتأمل الصور والمشاهد الإنسانية، الزلزال لا يُظهر أي عالم متنوع للأفراد. الخائفون منه هم خائفون فقط، من دون معيار عميق يمكن استكشافه من الصورة سوى فجاعة الخوف وظهوره. غاب صاحب الصورة السوري الضحية الذي اعتاده الجميع ونام عنه. وغاب المصوَّر أيضاً، وطغت اللغة واستنتاجاتها وتأويلها السردي العميق. اللغة وطبيعتها الضمنية والآثرة. الصورة تشابه اللغة اليومية في تكرارها، أما اللغة في التعبير عنها فشكلت رواية ممكنة للسوريين، نشوء لغة محاكاتية لآلامهم وطبيعة علاقاتهم، حتى التي لا نعرفها. "العقل الكتابي"، حسب مصطلح جاك غودي، دُفع جراء الزلزال لينافي الصورة ومحاكاتها، لتخيلها على الذات وسرد تفاصيلها بلغة أكثر إيماء وحدّة وقسوة، والدفع فيها بحلقة ضغط وقلق تنفك عن جسد وتعبير الكاتب وتلتبس القارئ ليخاف ويحزن. افتتحت اللغة فعل الظهور لأن الصور البشرية قد غابت، ثم اللحظة الذاتية التي تقود الكاتب لمنشور عبر وسائل التواصل، تستنطق الحدث بوظيفة عملية، أو إسناد الغائب الميت، الضحية في حوار مؤجل أو آني أو حوار ممكن كحاضر أو مستقبل، ثم شيء من موت الصورة من أجل عدم فنائها. لقد تمرد السوريون على صورهم بلُغتهم وحريتهم المنطوقة المكتوبة، خصصاً ذوو الضحايا الذين تمردوا عن لغة العرفان والتُقى، نحو الاستنطاق لصور ضحاياهم وتخيلهم من دون تجربة الموت أو النوم حتى.

في غالب المكتوب تم التمرد على ما يُمكن جعله طقوسياً دينياً، استنطاق الإنسان كان هدفاً سورياً كانتقام من الموت أو على الضد منه في الذاكرة والمستقبل. شيء من هذا حديث نحو استنطاق الإنسان في مواجهة نوعية الموت التي كُتبت على السوريين، مفتاح الحداثة جعل الإنسان إنساناً، أي ضداً للبهيمية وقيمة للمعنى، بخلاف الاضمحلال والرقم الذي شاع عن الضحايا السوريين في كل ذِكرٍ لهم. حتى الآن يقال عن ضحايا المقتلة السورية في الزلزال أو الحرب التي شنها النظام رقماً مُحدداً، لكن الزلزال فتح خلوداً ببذرة روائية وإنسانية أخرى تشكل اللغة باستنطاق الضحايا شكلاً لها. الزلزال عرض الجسد السوري وحكى عنه من خلال ذوي الضحايا، هذا جيد ليدفعنا لفكرة أخرى عن دور الكتابة بوصفها حاملاً عاطفياً وقيمياً وجدانياً.

لا يمكن اقتفاء النصوص كلها، لكن يمكن تخيل حركة الأقدام السريعة، والتجربة الضمنية للخوف على سلامة من نُحب، ثم الصمت بوصفه شكلاً لاختناق اللغة وأي شكل آخر في التعبير. ليست فائدة الزلزال أن يكتب أو يُعبر الناس بما جرى فيه، بل قدرته على تحويل كل الذوات لوحدة المصير والقلق، وإمكانية المحاججة بحق الإنسان الميت في وجه الطبيعة نحو تماثل آخر في المحاججة في وجه القتَلة. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها