الجمعة 2023/02/24

آخر تحديث: 19:56 (بيروت)

امرأة تحت الجسر

الجمعة 2023/02/24
امرأة تحت الجسر
السيدة وديعة التي خسرت بيتها فاحتمت بالجسر سقفاً
increase حجم الخط decrease
علامات الاهتراء معروفة. عندما تصبح الدولة هياكل ورقية. موجودة بالإسم. منتصبة بالشكل. عرضة للسقوط الكامل أمام نفخ طفل على شمعة. مشتغلة بالدفع الذاتي الذي لا تعويل عليه، ولا منطق له. اشتغال، رغم الحاجة الحيوية له، يبدو مؤقتاً، ذاك المؤقت طويل المدى أو قصيره، المتذبذب، المعتلّ بشتى أنواع الأعطال. الدولة التي لا شيء من بديهيات وجودها مضموناً لمواطنيها المتعسرة معاملاتهم والضائعة ملفاتهم. تضيق بزفراتهم مقرات متهالكة، بموظفين محبطين معوزين أو نزقين أو غير موجودين أصلاً، ومكاتب يعوزها الحبر والورق والطوابع، وأجهزتها المعلوماتية يتم تحديثها ببرامج مقرصنة تزيدها تعفناً.. أو لا تُحدَّث بالمرّة، فتصمت إلى الأبد لتستحيل ديكورات في متحف الانهيار.

علامات النهاية لا يُخطئ معها تشخيص. ومن سِماتها، ككل مرض عضال قاتل: صحوة الموت. تلك اليقظات المتواترة القصيرة، عندما يستعيد المريض نشاطاً وهمياً، كي لا نقول كاذباً، ويبدو بكامل جهوزيته لاستئناف مهامه "الطبيعية". ولشدة ما يكون الوهم مسبوكاً برداء واقعي، فإن صاحبه ينفّس حيويته الطارئة تلك، أول ما ينفّسها، في أصغر أشغاله، والتي، إن لم يجدها، اخترعها، غير آبه بالحاجة إليها أو حتى معقوليتها أو صوابها. فالتنفيذ هو المهم. إثبات الشيء بضدّه، حياة تبرهن الموت، حركة تدلّ على الشلل والفناء. فيقوم الصاحي الميت هذا من سرير احتضاره، ويقرر، مثلاً، اللعب بالطابة داخل المنزل مطيحاً بكل ما تبقى من زجاجه الهش.. قبل أن يعود إلى رقاده السقيم.

مثل هذا الجسد المارق هي الدولة اللبنانية الآن: تصحو لتخرّب التعليم فوق خرابه، ومعه القضاء المسمّم، والليرة الممزقة، والمصارف المتحايلة على المسؤوليات والقانون والتشريع، صارفة انتباهها عن الرقابة على السوق والطرق وسائر شروط السلامة العامة، بل وطالبةً مؤازرة المواطنين ودعمهم ومداخيلهم المالية الشحيحة... هذا في الأساسيات. وفي الهوامش، وفي غمرة صحوتها، تنذر امرأة ستينية مريضة، فقدت بيتها، بإخلاء ملجئها تحت جسر، في خلاء الشارع.

وفي التفاصيل التي أعلنها اليوم "مرصد السكن" التابع لاستديو "أشغال عامة" للأبحاث، أنه، منذ منتصف الشهر الماضي، تلقى بلاغاً حول السيدة وديعة، صاحبة "سناك دي دي" في شارع الخازنين في بيروت، والتي وصلها تهديد بالإخلاء من محلها حيث كانت تعمل وتسكن، "رغم مواظبتها على دفع الإيجار بشكل منتظم". ويقول بيان "المرصد" إن وديعة (63 عاماً) "تتعالج من مرض السرطان، وعانت تبعات تفجير المرفأ وتدميره محلّها الذي تمكّنت من ترميمه وإعادة تشغيله بمساعدة جمعيات وبعض الجيران والزبائن، لكنّها اضطرّت أخيراً إلى إخلاء "سناك دي دي" في أول شهر شباط الجاري، بسبب عدم تحمّلها مضايقات المالِكة. وهي منذ أسبوعين، تبيت وأغراضها تحت الجسر المواجه لشارع الاستقلال في منطقة مار مخايل، بعدما انقطع مدخولها نتيجة إقفال محلّها... اليوم، أبلغتنا وديعة بأن فوج حرس بيروت، التابع لمكتب المحافظ، أمهلها 24 ساعة لنقل أغراضها من تحت الجسر".


وفي هذه الأثناء، ثمة آلاف اللبنانيين، لا سيما في الشمال، يقطنون مباني متصدعة وربما آيلة للسقوط، وقد فاقمت سلسلة الهزات الأرضية الأخيرة مخاوفهم، و... لا حسّ للدولة وفروعها. بل لم ينسَ أهالي منطقة ضهر المغر بعد، وبعد شهور على انهيار مبنى وجرح امرأة وقتل ابنتها، بالإضافة إلى أخبار عديدة عن تصدّع مبانٍ في المدينة وتهديدها لحياة السكان وللسلامة العامة، إقصاءهم وأصواتهم وتجاربهم من مؤتمر نظّمته نقابة المهندسين في طرابلس حول هذه الأبنية. إذ أصدرت "أشغال عامة" بياناً جاء فيه إن الحدث تم "من دون مشاركة الأهالي ومن دون تبليغهم بقرارات المؤتمر، وبتوصيات من قبل وزراء ونواب لم نعد نثق فيهم نتيجة علاقة بنتها الدولة مع السكان في طرابلس بالذات. قراراتٌ وتوصيات لا نعلم إن كانت ستتمّ متابعتها أم أنّها ستبقى كما ما سبقها، حبراً على ورق". ويضيف "أشغال عامة" إن "الدعوة إلى هذا المؤتمر كانت محصورة بما يُعرَف بالخبراء التقنيين، من مهندسات/ين وفعاليات، بينما أقصت السكان وأهل الأحياء، وهم المعنيون المباشرون بالموضوع"، وذلك رغم وجود لجنة من المتضررات/ين والناشطات/ين في طرابلس تحت إسم "لجنة الحق بالسكن في طرابلس"، وتعمل على إيصال أصوات المتضررين وإشراكهم في أي خطة محتملة من قبل الجهات المعنية.

هكذا يستقيم منطق الدولة: بطء وإهمال وتعالٍ اتجاه سكان أبنية غير آمنة... وسرعة حركة وإجراءات اتجاه امرأة وحيدة ومريضة افترشت الأرض تحت جسر في بيروت بعدما فقدت المأوى. منطق الصحوة إياها، ونشاطها المفرط في مسارب سوريالية. والميت، قبل إنجاز كامل مواته، يحب ترتيب مثواه الأخير، "ينظّفه" من مَشاهد قد تعكّر سيرته. ولا وقت لديه ينفقه على ما يتحدى قدراته المنخورة أصلاً، قبل المرض الأخير، بآفات السلطة. السلطة التي، عندما كانت بكامل "صحّتها"، سخّرت قواها لتشييد الأزمة الراهنة.. منتفعةً، منتفخة، حتى الرمق الأخير الذي يتحشرج به الجميع الآن. 
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها