الثلاثاء 2023/02/21

آخر تحديث: 12:11 (بيروت)

"الكُتّاب والكحول"... تاريخ الخوف والإدمان والإبداع وتدمير الذات

الثلاثاء 2023/02/21
increase حجم الخط decrease
"الكُتّاب والكحول" ليس عنواناً فرعياً دقيقاً لكتاب (رحلة إلى إيكو سبرينغ)، بل هو محاولة لتأطير ما حاولت الناقدة الأدبية أوليفيا لاينغ الجدل فيه، فاستسلمت فيه إلى العنوان الفرعي، ليكون فاتحة مشوقة لقراء الأدب، وعلماء النفس والسلوك، وللمتعاطفين أيضاً مع صُناع الروائع في الفنون بوصفهم مشاهير. 

"الكُتاب والكحول" ليس كتاباً علمياً، رغم تركيز الكاتبة على الجانب العلمي لفهم ظاهرة الإدمان الكحولي، وجهدها في تضمينه منهجاً وتحليلا في آن معاً، وخليطاً من أنواع السرد الأدبي. حيثُ تتنقل أوليفيا في الكتاب بين مستويات الكتابة الذاتية بما فيها التحليل الأدبي النقدي والسرد الخاص، وتحليل سياقي اجتماعي ونفسي لأدب السيرة والرحلات واليوميات لستّة كتاب تُسميهم هي من عظماء الفن في العالم يضاف لذلك مقاربة نصوصهم مع حيواتهم. الكتاب سرد لحيوات إف سكوت فيتزجيرالد، إرنست همنغواي، تينيسي ويليامز، جون بيريمان، جون شيفر وريموند كارفر. حياتهم العائلية منذ المولد، وصولاً لعائلاتهم التي شكلوها، أولادهم والأماكن التي تنقلوا فيها. جزء كبير من النص هو معوقات الرحلة لكل منهم، والانتظار والتعب الهائل لأوليفا لاكتشاف تعايش الكحول مع أشهر أدباء القرن، لتجيب بشكل نوعي عن سؤال تطرحه في الكتاب من مقال قرأته "أربعة من الأميركيين الستة الذي فازوا بجائزة نوبل للآداب كانوا كحوليين. حوالى نصف كتابنا الكحوليين في النهاية قتلوا أنفسهم". 

(أرنست همنغواي)

لا تزيح أوليفيا، فرويد عن طريقتها في التحليل والفهم، خصوصاً العُقد المركزية لعقدة الأم والأب والعائلة البدئية، وفي هذا تمارس مقارنة خفية بين العلاج النفسي الحديث، ورحلتها في قراءة واستكشاف أثر يوميات كتابها المستهدفين، مع محاولاتهم الانهزام أمام الطبيب النفسي أو مؤسسات علاج إدمان الكحول، ووضعهم في سياق صراعاتهم اليومية أو مشاكلهم الجنسانية.

فكرة أوليفيا هي فكرة اكتشافها الخاص من وضع عائلتها الشبيه بعائلات غير مستقرّة نفسياً أو مهنياً أو حتى على مستوى المكان المُعاش. لا سيما أن أوليفا لاحقت كتّابها الستة في أماكن تواجدهم المتغيرة، وتأملت أحياءهم وبيوتهم التي عاشوا فيها. لم تكتف أوليفيا بفهم الإدمان بوصفه عادة لصيقة، بل بوصف الكحول أحد أكثر أشكال الاطمئنان والفزع في آن واحد لدى كُتابها وأن إدمانهم الكحولي عدو لدود لهم.

لاحقت أوليفيا تاريخ الخوف والإدمان والإبداع، بدءاً من الفقر والعائلة وصولاً للتجربة الشخصية لكل كاتب، المقارنة مع الذات هي بصلب التعاطف والتساوي مع ضحايا الإدمان، جعلها تشكّل رواية خاصة لها عن حيواتهم عبر فهمهم وتحليل نصوصهم. النهاية المأسوية لكل كاتب، من المرض أو الهذيان أو القلق وصولاً للموت، كل هذا تأخذه على معيار من الجديّة، حيث تضع تاريخ عائلتها والبيت الكحولي والمأزوم، في مشابهة مع رحلة كل كاتب وصولاً لما أنجزه وقدمه. 

(تينيسي ويليامز 1979)

البحث دوماً عن صديق لرحلة "الاحتواء" التي يبحث عنها كل كاتب، بداية في مواجهة الذاكرة والآباء والأمهات والزوجات وصولاً إلى السرير والأرق، ولا تشير أوليفا صراحة لفكرة الاحتواء النفسي التي يبحث عنها الجميع، لكن اليوميات والنصوص الأدبية تكشف عن هذا. حتى عنوان الكتاب اقتُبس من جملة وكأنها تُشير لرحلة صوفية لبريك، البطل المخمور حينما يُجيب أباه في مسرحية "قطة على صفيح ساخن" لوليامز أنه "يأخذ" رحلة قصيرة إلى إيكو سبرينغ. إنها طريقة شعرية للقول إنه يمشي إلى خزانة جنة الكحول. نحو "تحقيق الصمت أو إلى محو الأفكار المزعجة الذي على الأقل وقتياً، يُصبح ممكناً من خلال كفاية الخمرة". وأوليفا حوّلت أدب المذكرات لاستقراء نفسي لفهم الإدمانية لفهم رحلة الألم وتدمير الذات.

في الكتاب تضع أوليفا مستويات هائلة من العواطف التي من الممكن إبرازها في فهم الكحوليين، وهي تستشير الأطباء ومراكز العلاج والطرق الطويلة للمعاناة في التخلّص من الآفة، من دون نسيان جوع الكتاب ورغباتهم. لكنها تميل إلى تفسيرات الكتاب ذاتهم، اليوميات أتاحت لها اطلاعاً هائلاً عن مستويات العيش اليومي لأبطالها وهي تعيدهم إلينا بوصفهم يكتبون بعظمة، ويعيشون بمأساة. 
 
تُلمح الكاتبة إلى سياق العصر وآلية الشهرة في منتصف القرن العشرين كيف تُحيل الكُتاب إلى ظهور اكتئابي، وأحياناً عن أدوار يعيدون كتابتها كانوا قد عاشوها. الأهم هي ما تعايره أوليفيا في ربط كل قصة بحدث الكاتب وسيرته، تينسي ويليامز في "عربة تجرها الرغبة"، أو همنغواي في ذكريات الحرب. شيء من هذا يبدو درساً للتعلم كيف تكون ذكريات الكاتب محاولة إبداعية للتطهر والتفريغ، لكن الكحول يجعلها أكثر تجسداً في الألم للكاتب نفسه، لا القارئ المستمتع بما يقرأ. 

(فيتزجيرالد)

تلتقط أوليفيا رسائل همنغواي وفيتزجيرالد، معنى الصداقة والوحدة، ومحاولة البوح بينهما وكأن القسوة التي يتعايشيان معها تبدو مخيفة، لكن دلالة صدقها وانحباسها لا تتجلى بوحاً إلا بين كاتبَين، إنها جزيرة المدمنين المُبدعين، وليست جزيرة الكحوليين كلهم.

مصاعب الذات والإبداع تتجلى أيضاً في أشد محاولات ضبط النفس ومحاولة الانصهار الاجتماعي، الرغبة في الاحتواء تُخمد دوماً ولا يبادلها إلا الكحول. أوليفا التقطت "دافع الرغبة في إخماد القلق الاجتماعي الحاد". ونزعته من رحلاتها على طرقهم، وفهمها لمنجزاتهم. كان الكحول "زيت تشحيم كلي الوجود للتبادل الاجتماعي". فشل عائلاتهم البدائية وفشلهم في تشكيل عائلة مستقرة، وحتى في وحدتهم يصارعون فيها أنفسهم وكحولهم المتشخصنة في كتاباتهم وأشعارهم.

ليست الكحول وحدها ما يُنتج المعنى الإدماني الذي تعالجه أوليفيا، بل الأرق أيضاً، لشيفر وويليامز صعوبات كثيرة في هذا، الوسن الذي يضفيه الكحول في بداية تناوله، ثم النشاط والتخدير في معادلة كل جرعة وزمنها ودرجة الاعتياد عليها.

تأخذ أوليفيا قارئها نحول الليل، نحو نهاية يوم خائف آخر، ليس ما نعرفه عن رواية "غاتسبي العظيم"، هو ما نعرفه مما قرأناه، بل سنعرف الليالي الطويلة لكاتبها وهو يحاول إنهاء يوم واحد من دون مقتلة الوصول لليل أو السرير، أو حتى الزوجة التي فُقدت وجن جنونها. 
 

(جون شيفر)

إنها بداية العصر الذي كان فرويد يخرج فيه إلى العالم لالتقاط البشر لصراعاتهم، لكن اوليفيا كشفته لنا أكثر في كل تفصيل من الممكن فيه لكتّابها أن يكونوه، هي لم تقدّم أحداً منهم لطبيب نفسي، اكتفت بشرح كيف يكون المبدع خلاقاً رغم المقتلة التي يعيشها، ثم نزعت الخمر من فكرته الاحتفالية أو الإدمانية، نحو جعله انغماساً احتوائياً، وصولاً ليدمر الدماغ ويصبح المعيار الوحيد لتدمير الذات والجسد بسلام.   

لا يجد قارئ الكتاب متسعاً للوم الكُتّاب بوصفهم ضحايا إدمانهم، ولا وقت ليزيح عينيه عن الكتاب جراء اندماجه التعاطفي الاستسلامي مع كل شخصية وآلامها. تأخذ أوليفيا القارئ في رحلة لكل شيء يخص أبطالها الضحايا. نباتات الشوارع، ظلال المقاهي، لوائح الأطعمة في المطاعم التي عاينوها، بيوتهم وأحياؤهم ومَن حولهم من بشر، حتى زمن المسافة المقطوعة بين كل مدينة قطعوها، ورسائل الكُتّاب للناشرين، رسائل أولادهم وعشاق زوجاتهم أحياناً لقد بحثت أوليفيا عن الماضي النفسي والتاريخي لدى الكتاب، معلومات كثيرة نستطيع الحصول عليها عن كُتّاب هذا الزمن من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، أما أوليفيا فارتهنت لمهمة استكشافية في جانب علمي وأدبي، بالأحرى إنساني عاطفي. حتى إيجادها لمسودات ومخطوطات يجعل القارئ يظن أن مهنة المحقق والمحلل النفسي والأدبي قد استحوذت عملها. 

تلمح أوليفيا إلى خواص الإبداع وارتباطه بسلامة الدماغ والجسد وحتى بالعقد الجنسانية، وعلاقة الكحول بالدماغ كيف توصله للآفة، ثم لمحاولة العلاج، ولا يضنيها أن تستند إلى تعلق البشر بالكحول، وكيف امتلك في الأسطورة اليونانية بُعداً مخيالياً متعلقاً بالصلاة وبالإلهي. 
لا يعتبر الكتاب تجربة واحدة من الممكن تأصيلها أو فهمها، لكنها حيوات إبداعية ارتبطت بآفة إدمانية وقُتلت فيها. وكل كتابة وجدتها أوليفيا وكل نص حللته، اكتشفت فيه هالة انتحارية ذاتية أداتها المتعوية الكحول، ثمن الزجاجة، وأنواع الكحول، وميقات الانغماس فيه كله يحمل قصة وتاريخاً وظرفاً وطريقة من العقوبة الأبوية وصولاً إلى تمجيد الإله دينسيوس، أو تمجيد الكتابة والشعر.

التعاطف هو السمة الأبرز، وطريقة الكتابة نادرة وبديعة وكأنها توحي بدرس لسكّيري الأدب، وللقارئ النهم ليفهم كيف يبدو الاحتواء الإدماني رفيقاً قاسياً للإبداع، وكيف لم يتخلص كاتبٌ ما من ماضيه. في النص دروس حتى لمدمني الكحول، وفي الوقت ذاته، يلقح هذا مع تنبيه علمي وطبي لأثر هذا، لكن المشوق في الكتاب يطفو فوق كل هذا من آلية السرد الخليطة إلى كيف يكون نص مذهلاً وعبقرياً، مأساة لأكثر فناني العالم شهرة وتأثيراً. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها