الإثنين 2023/02/20

آخر تحديث: 11:46 (بيروت)

في حضرة الزلزال.. فصل من يوم القيامة السوري

الإثنين 2023/02/20
في حضرة الزلزال.. فصل من يوم القيامة السوري
فقَد معظم عائلته في الزلزال، ويجلس مع ابنه الناجي فوق حطام منزله في الأتارب، شمال غربي حلب (غيتي)
increase حجم الخط decrease
كأنها قنبلة ذرية، بل قُل قنابل. أكثر من واحدة سقطت في الوقت نفسه، وبعد أقل من دقيقة تبعتها قنابل أخرى. لا تشبه قنابل القصف الجوي الروسي. اهتزت الأرض وصدر من أحشائها صوت غريب لم يسمع الناس له مثيلاً من قبل. صوت يشبه صوت الغول في أفلام الخيال العلمي. أصوات متداخلة، غول، ديناصور، وحيوانات صارت برسم الخيال، وتحررت جميعها فجأة وأخذت تصرخ معاً.

ضجة عالية أسرع من السمع، وضغط هائل، كأن السماء فرغت من الهواء، وأطبقت على الأرض، فارتطم الكون على بعضه، وطفر دم من الأنوف والأفواه والآذان. عصف هوائي، حمل الناس، وطار بهم بعيداً، مثل بساط من ريح، انتشل الأطفال من أحضان أمهاتهم، وتطايرت الأحلام بين البيوت الاسمنتية التي هبطت كأنها تكوينات كرتونية، لم تهتز ذات اليمين أو ذات اليسار.

رعد في البداية كما لو أنها العاصفة التي كانت تأتي من جبال طوروس، لم يدم أكثر من ثلاث ثوان، ثم زلزلت الأرض، وسمع الناس صوت زفير هائل، كما لو كانت لحظة القيامة. وخامر الناس أحساس بأنها هذه المرة قيامة حقيقية، وليست تلك التي كانت تولدها القاذفات الروسية، التي ترمي قنابل نابالم بوزن نصف طن.

تناطحت جبال طوروس، وهي ترسل الغيوم والرياح والعواصف، فدوت أصوات هائلة، خرج منها الغول الأسود المخيف في ومضة خاطفة، وبضربة واحدة بعثَر الأبنية والخيام والبشر. وخلال ثوان معدودة، تزلزل كل شيء فوق كل شيء، فانفجر من انفجر، وانكسر من انكسر، وبلعته الأرض، ليصبح تحت ركام الاسمنت.

صدمة أولى، تلتها ثانية بعد دقائق، ثم أخذت الأرض تتمرغ على نفسها مثل حيوان أسطوري تلقى طعنات في جسده. كانت الأرض تتقلب وهي تصدر أصوات ألم كأنها تشكو، وتريد أن تفرغ ما في جوفها.

لم تعد الأرض آمنة. المخاطر ليست فقط في الأجواء، والمحيطات، والبحار، والأنهار. بل على هذا الكوكب. هناك مناطق مهددة بأن تتشقق وتزلزل أو تطلق حمماً من داخلها. لا مساحات آمنة على الدوام، وليس الزلزال وحده مصدر الخطر المفاجئ. هناك مناطق غادرها أهلها بصورة نهائية، خوفاً من أن تهتز من جديد. كل مَن عليها يحس بأن هذه الجغرافيا باتت منكوبة، عنف فوق الأرض وتحتها. أرض غاضبة تهتز، تحتج، تصرخ، تبتلع من فوقها. كأنها قدر ملعون وكأنها عقاب وألم وخوف. توجه الإنذار تلو الآخر. كأنها صرخة شمشون في لحظة اليأس الأخير.

لاجئون هنا، ضائعون، لا يعرفون أي الجهات هجمت نحو الأخرى، من الذي رمى قنبلة ذرية في هذا الفجر. كان بوسعه أن ينتظر شروق الشمس حتى يخرج الناس من المنازل. باغتهم فجراً وهم نيام، كان يستطيع أن ينتظرهم ساعة أخرى ويضربهم بعد أن يكونوا قد غسلوا نعاسهم، شربوا قليلاً من الشاي، وأكلوا بعض خبز الأمم المتحدة المرّ، وألقوا على بعضهم البعض تحية الصباح، وذهب الأطفال إلى مدارس الخيام والكهوف.

رياح الشمال تهب نحو حارم أرض الكرز السماوي، جنديرس، سلقين، إلى جنوب الزلزال، انطاكيا طريق بطرس الرسول، الأرض التي مشى عليها تاريخ سوريا منذ روما. تتقدم إلى شقيقة حلب التي اهتزت كأنها تحاول أن تمسك بغازي عنتاب (عين الطاب)، الأيادي متشابكة، تعانق "كهرمان مرعش" في زفرة الوحش الأولى، أورفه ذات الشأن تميل برأسها ليمر الغبار الإلهي. كل مكان هنا له حكاية، الكل يتحدّث، ولا أحد يسمع، سيتكلمون طويلاً ولن تنتهي الحكايات. سيجف الدم ويبقى سيل الدمع ينقّط فوق حاضر مقلوب تسكنه مخيمات اللاجئين.

هؤلاء هم الانتظاريون، يتحلقون حول المباني المهدمة، يشعلون النيران ليلاً كي يستدفئ الأقارب تحت الأنقاض، يسمعون أصواتهم، تصل أنفاسهم، ويتسرّب دمهم من بين الشقوق. والأهل ينتظرون ولا يملكون سوى الدمع والدعاء، فربما يأتي كلب دولي مدرّب لينبح فوق الركام.

هناك بعض أغراض المطبخ، كتب مدرسية، ألعاب أطفال، نباتات، أحذية، أياد تمتد، بعضها يتحرك، وآخر يابس توقف فيه النبض. رسائل تصل من تحت الانقاض عبر "واتساب" تسجل لحظات الموت، وأخرى ترسل طلب استغاثة تقرنه بالمكان.

عند معبر باب الهوى، لم يدخل في ذلك النهار الشاحب سوى الهواء البارد محملاً بروائح الثلج الذي يغطي الجبال القريبة. لا يأتي أحد ولا يذهب. قوافل المساعدات، توقفت ولم يصل منها شيء. لا أحد يريد طعاماً ومعجون أسنان وورق تواليت. يطلب الناس ماء، لقد جفت حلوقهم من أثر الصراخ في ذلك الفجر. كانوا يركضون وهم يصرخون. يركضون في كل الجهات بلا هدف. ويصرخون ولا أحد يرد عليهم من أي مكان، رغم ان الصراخ كان عالياً وقوياً.

معبر باب الهوى رجال بكوفيات حُمر، ينتظرون، وفي اليوم الثالث تبدأ الجثث بالوصول. عائدون من جنوب تركيا، من انطاكيا وغازي عنتاب وأورفه ومرعش. جثث الذين تم انتشالهم في اليومين الأولين. هؤلاء الذين هربوا إلى هناك من أجل حياة أخرى، بعدما شردهم بشار الأسد وروسيا وإيران التي استقدمت مليشيات من لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان من أجل طرد السوريين من بيوتهم وأراضيهم في درعا وريف دمشق وحمص وحماة وحلب ودير الزور والرقة.

أكياس سوداء تدخل تباعاً من باب الهوى، وتبقى أكياس أخرى على أرصفة الشوارع في انطاكيا، بعدما فاضت المشافي وبرادات حفظ الجثث. جثث ترافقها روائح الموت، ولن يكون في وسع أحد أن يودّع هؤلاء، الذين ستصبح لهم قبور معروفة وحالفهم الحظ أنهم وجدوا من يتعرف عليهم، ولم تبلعهم القبور الجماعية.

خيام، في كل مكان في جنوب تركيا وشمال غربي سوريا. والعدد لا يكفي، تحولت السيارة إلى مأوى، وصار الحصول على الخيمة رفاهية في البرد الشديد، ومن لا يملك سيارة، نام في العراء. لم يكن في وسع الإغاثة مساعدة الأعداد الكبيرة من المشردين في الأسبوع الأول على الأقل.

الدفاع المدني السوري- الخوذ البيضاء، هو ما بقي للسوريين الذين شردهم الأسد وبوتين وحكام إيران. هذه المنظمة وحدها كانت موجودة حين اهتزت الأرض تحتهم. وهذه ليست المرة الأولى التي يثبت فيها هؤلاء المتطوعون أنهم قادرون على مساعدة المنكوبين. وفي هذه المناسبة تيقن السوريون أن الدفاع المدني حالة تعبر عن الإصرار على مواجهة الكارثة التي حلت بهم منذ أكثر من عشر سنوات. وهذا درس مجاني لجميع السورين في كل مكان، من أجل التفكير في بناء أجسام سورية مماثلة، تحمل عبء قضيتهم الكبير، التي لن يساعدهم أحد في إيجاد حل لها، إلا إذا توحدوا من أجل هذا الهدف.

زلزال وليس قنبلة ذرية. زلزال وليس غولاً خرج من بطن الأرض. زلزال وليس يوم القيامة. زلزال بأكثر من هزة ارتدادية، ورغم الأهوال الكبيرة، يظل أهون على السوريين من زلزال بشار الأسد الذي دمر سوريا وشرد شعبها. زلزال كأنه ولد من خاصرة زلزال الأسد، وقد رأى العالم ظله في عيون الأسد حين زار حلب، وهو يبتسم اثناء تفقد الآثار. لم يراوده أي إحساس بالحزن على الضحايا، حتى الذين وقعوا في الجغرافيا التي يسيطر عليها، ولم يعلن الحداد دقيقة واحدة.

وترجع إيلاف ياسين وحدها، لم تفلح بعد أسبوع من الانتظار، في اخراج شقيقها وزوجته من تحت أنقاض المبنى، الذي انهار فوقهم في انطاكيا، وليس على لسانها سوى مرثية أخرى للسوريين، الذين يجمعهم هدف واحد وميتات كثيرة. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها