الخميس 2023/02/02

آخر تحديث: 14:03 (بيروت)

"خيط البندول" لنجاة عبد الصمد.. على الطبيب مناورةُ الألم

الخميس 2023/02/02
"خيط البندول" لنجاة عبد الصمد.. على الطبيب مناورةُ الألم
increase حجم الخط decrease
صدرت عن منشورات هاشيت أنطوان رواية "خيط البندول" للكاتبة السورية نجاة عبد الصمد.
وتوغل الرواية في تفاصيل المجتمع السوري، عبر سرد قصص النساء والرجال على السواء، وبارتكازها إلى حبكةٍ تبيّن الكثير من الفروق الاجتماعية بين الطبقات في سوريا منذ التسعينيات وحتى أيامنا هذه. وبينما ينجح كثيرون في التخلص من الفقر، يبقى كثيرون عالقين في القعر. لكن بطل الرواية الخفي، ليس أسامة دائماً أو وردة التي طرأت على حياته، أو حتى زوجته نداء وصديقات طفولاتها. البطل الحقيقي هو آدم، الابن الذي لا يصير ابنًا. وهنا فصل منها:

الجزء الأوّل
1993
وصلتُ مع اللّيل إلى مدينتي زعفران. بلهفةٍ ضغطتْ يدي على جرس الباب مشفوعةً بشيفرتنا الخاصّة، ثلاث رنّات: قصيرة، قصيرة، ثم طويلة. هي نغمتنا أنا ونداء، واحدةٌ من شيفراتنا الكثيرة. أطلّ صمتٌ من خلف الرّنين، صمتٌ ولا سواه. طرقتُ الباب بأصابعي: دقّة، دقّة، ثلاث دقّات. هي أيضاً شيفرتنا، ونداء لا تجيب. لا تفتح لي باب بيتنا، أنا العائد إليه بعد سبع ساعات سفر. تعرف نداء أنّني لا أحمل مفتاحاً، واليوم موعد عودتي وهي لا تنتظرني في البيت ولم تترك على الباب رسالةً.

ظلمةٌ أطبقت عليّ فجأةً. لم يكن بين الخواطر الألف التي هجمتْ واحدَة طيّبة. بحذائي الأسود الثّقيل، المشبّك ببنودٍ سوداء غليظة تضغط رجليّ حتى منتصف السّاقين، والحامل غبار التّعذيب في معسكر التدريب، بتعبي وعرقي المتفشّي بقعتين تحت إبطيّ وبقعةً راحت رطوبتُها تلسع ظهري؛ رحتُ أهرول إلى بيت أهلي القريب.
مسّدت أمّي على رأسي: «أسامة، يا بنيّ؛ اجلس وقل بسم اللّه. زوجتك في المشفى. صادت غزالاً». 

تمسّد أمّي على رأسي حين تريد منحي حناناً تخونها عنه الكلمات. «اصطادت نداء غزالًا!» ماذا حلّ بفلان؟ أها... فلان قد اصطاد غزالاً. هكذا يصفون عندنا مَن غافله مرضٌ سريع أو سقط من طابقٍ عالٍ أو صدمته سيارةٌ مجنونة. كذلك واسى الناس جدّي لأمّي حين احترق دكّانه الوحيد: «كلها صيدة غزال... بسلامة راسك». أمثالنا الشعبيّة تهزأ من المصيبة، تحتال عليها بالتّدوير والتّنميق قبل أن ترميها إلينا في قالب نكتةٍ شاعريّة.

طرتُ إلى المشفى الوطنيّ، هذا الذي اعتدتُ الدّخول إليه واثقاً ومحايداً، فهو مكان عملي وبيتي الثاني، ركني الأنيس الذي أستقي منه رزقي، وفيه أربّي صداقاتي وعاداتي، وأراكم سجلّي المهني وأحلامي الشّاهقة. كان هذا قبل التحاقي بخدمتي العسكريّة. واليوم عبرتُ بوابته مستعجلاً، مضطرباً، بالكاد أرى أمامي. بدا المشفى قلعةً أجنبيةً غامضةً. تمنيت لو أنّ أشجار السّرو والصّنوبر العالي تُقلع من مكانها حول المدخل لتأتيني كفايتي من الضّوء، لعلّ ضيقي من ظلالها يخفت. زكمت أنفي رائحةُ رخام الأرضيّات المرصّع بدرجات اللّون الرماديّ، كنت أراه كلّ يومٍ ولا أنتبه. رخامٌ غالي الثّمن وملطّخٌ بالزّنخة... مزيجٌ من رائحة الوسخ والأمراض وأخلاط الأدوية، ورائحة المصائر التي تُرسم هنا. مصائر طالما كنتُ شاهدها المحايد، وغدوتُ اليوم أسيرها. مجرّد رجلٍ مرعوبٍ على حبيبةٍ غافلته واصطادت غزالاً في غيابه.

عثرتُ عليها. على سريرٍ في قسم الجراحة، حوله أسرّةٌ سبعةٌ تنام عليها سبع نساءٍ بوجوهٍ واهنة كوجهِ نداء. كانت تتغطّى ببطانيّة عسكريّة... «يا اللّه؛ هنا أيضاً بطانيّاتٌ عسكريّةٌ وغدة؟». فردَتْ نداءُ لي ضحكةً غائمةً ومدّت إليّ يدين ضعيفتين. كشفتُ عن بطنها: في أسفله ضماد جرحٍ طويلٍ ومائل، ومن زوايا بطنها الأربع تخرج أربعة أنابيب رفيعة، تتدرّج ألوان السوائل فيها من الدمويّ إلى الورديّ الدّامي إلى المصل الشفّاف، وتنسفح من جسدها إلى أكياس من البلاستيك سوف ترمى وسط نفايات المستشفى فور أن تمتلئ.

كبيرٌ وقاهرٌ هذا الغزال! نطحني لأهوي قربها على سرير مرضها بعد جراحةٍ خسرتْ فيها مبيضها وقناتها الرحميّة اليمنى وزائدتها الدوديّة وما يقارب لترين من دمها. عوّضوا نزفها بأكياس دمٍ تبرّع بها أحدٌ ما، شخصٌ لا نعرفه. ليس أنا، أنا لم أكن هناك، لا جرّاحاً بطلاً ولا غريباً عابراً يتبرع بدمه لمريضٍة تحتاجه ولا زوجاً يساند زوجته. وهم غرسوا في بطنها الأنابيب الأربعة وليس أنا، وهم طمأنوني: كانت عمليةً ناجحةً. هراء... لو كنت أنا الجرّاح لكنتُ تأنّيتُ ورمّمت مبيض نداء، لكنت تمهّلتُ في خياطته وحافظتُ عليه، ولو كنتُ قريباً من ذلك الجرّاح لكان تروّى، ولما استعجل أن يستأصل. كان هذا أوّل خاطرٍ راودني. 

هذه آفتنا نحن الجرّاحين. يظنّ واحدُنا نفسه إلهاً قديراً يدبّر مرضاه أفضل من زملائه. ولكن؛ مَن أنا الآن لأطلق حُكمي بهذه الثّقة وهذا السّخط؟ لستُ الآن أكثر من طبيبٍ مساقٍ إلى الخدمة الإلزاميّة في الجيش، لسنتين تطولان كدهرين، ولم أكمل بعدُ شهورهما الأربعة الأولى، دورة الأغرار. افتتحوها بأن حلقوا شعر رؤوسنا على الصّفر، كالمساجين، وزّعوا علينا بدلاتٍ ليست على مقاساتنا. خاطبونا: «يا حيوانات... يا زبالة... يا...».

قال لي أبي قُبيل التحاقي: «اذهب واثقاً. العسكريّة مدرسة تخريج الرّجال وبناء الأوطان، وهي حقّ الوطن على أبنائه في أن يخدموا عَلَمه». لا أوطان هنا لنبنيها يا أبي، قلت له. قيادُنا مربوطٌ إلى حفنة ضبّاطٍ خاوين وأفظاظ، يتسابقون إلى إعدام الإنسان فينا. واليوم، في موعد إجازة المبيت مرّةً في الشّهر، إجازة الاستحمام، بلغوا منا ما تسابقوا عليه، لم نكن رجالاً حين خرسنا وهم يشحطون مصعب من بيننا نحو غرفة التّعذيب.

بدّلتُ ثلاث حافلات في طريقي إلى البيت، وصراخُ مصعب يملأ رأسي. لماذا أحمله معي ما دمت لا أملك تغيير مصيره، أنا الذي تعلّمتُ كيف أنّ على الطبيب مناورةُ الألم، وإقصاؤه عن نفسه وبيته؟ أنا الذي لم أكن أعلم ما ينتظرني في بيتي. كنت أحلم بعناق نداء، بالاستحمام، بأن تدلّلني وتطعمني من يديها، فإذا بها هي المحتاجة إلى الدّلال والرّعاية، ومفروضٌ عليها البقاء في المستشفى حتّى موعد نزع الأنابيب من بطنها. دثّرتها ببطانيّتها وتركتها هناك، انسحبتُ إلى بيتنا ليطبق على وحشتي. تقلّبت في سريرنا الهائل على شخصٍ واحد، وأنا أعاود قراءة الورقة التي تركتها نداء لي على طاولة المطبخ: «أسامة، سأحاول أن أحيا فقط كي أعود إليك. إذا متُّ سامحني. وأيضاً؛ إذا متُّ فلا حرج عليك من نكث عهودنا».

وقد وقّعتْ تحتها برسم فراخ البطّ الثلاثة، إحدى شيفراتنا أيضاً...
من قبل عرسنا وثّقتْ نداء عهودنا الكثيرة، أحدها أنّنا سننجب ثلاثة أطفال، نقشتْ أسماءهم على المقاعد أينما جلسنا: «زاهر وأماني وجود». ولدٌ وبنت والثالث اسمٌ يصلح للجنسين. 
«سيكون لزاهر عينان ورموشٌ تشبهانك وحدك، ولأماني جديلتان بلون شَعري، وكلّ ما عداه يشبهكَ أنت»، قالت لي ذات مرّة.

– إنجاب الأولاد ليس مشروعاً يحتاج إلى تخطيط، سوف تتكفّل الطّبيعة برسم أشكالهم حين يأتون.
– أنا وأنتَ أسمران، لن تكون جديلتا أماني شقراوين كما باربي، بل بنيّتان كلون الأرض.
أجابت وكأنها لا تسمعني، واسترسلتْ: «سوف تنمو أماني في جوار قلبي حتى تكتمل، وألدها هديّةً لك، تشبهك وحدك، لأرى وجهكَ كلّما تطلّعتُ إليها، ولن أحبّها أكثر مما أحبّك...».
وأنا، لستُ رومانسيّاً كي أجاريها. 
كانت نداء حارّةً، حارّةً ومتعِبة. وكنت أحبّها. 

ولم أكن بانتظار الحبّ يوم لقائنا الأول. كنت بين زملائي على مدرّج كليّة الطبّ. يضجّ المدرّج بخليط عواطفنا، رهبةٌ وتأهّبٌ لإشهارنا أطباء خرّيجين. تلك أمنيتنا المشتهاة منذ دخولنا الكليّة، وقد آنت. كنت أتطلّع إلى جهة المدرّج المقابلة، حيث يجلس أهالي رفاقي، ولا أرى أهلي بينهم ليشهدوا معي يوماً ما كانوا يستعجلونه أكثر مني. في تلك الجهة المقابلة، لاقاني وجهُ صبيّةٍ سمراء، في عينيها بريقٌ خلتُه يومض لي وحدي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها