الخميس 2023/02/16

آخر تحديث: 12:18 (بيروت)

شهاب الخشاب لـ"المدن": لست مُدرّساً للفلسفة بل داعياً لممارستها

الخميس 2023/02/16
increase حجم الخط decrease
شهاب الخشاب كاتب وباحث في الأنثروبولوجيا. ولد في القاهرة العام 1991، ثم هاجر مع أسرته - والده الشاعر والناقد وليد الخشاب ووالدته الكاتبة مي التلمساني- إلى مونتريال بكندا، نال درجة الدكتوراه عن صناعة السينما المصرية في جامعة أوكسفورد، ويعمل حالياً كأستاذ مساعد في الأنثروبولوجيا البصرية في الجامعة نفسها.

يهتم شهاب عموماً بالسينما والميديا والثقافة الشعبية والتكنولوجيا والبيروقراطية المصرية. ونشر الكثير من المقالات في صحف ومجلات مصرية حول تلك الموضوعات. ظل يكتب بانتظام سلسلة من المقالات في جريدة التحرير تحت عنوان "الفهّامة" تشرح مفاهيم ومصطلحات في الفلسفة وعلوم الإنسان. كما يكتب مقالات دورية في سلسلة عنوانها "موسوعة الملل" على موقع "كتب مملة"، كامتداد لسلسة "الفهّامة".

"الفهَّامة" كان أيضاً عنوان كتابه الأول الذي صدر مؤخراً عن دار ديوان للنشر في القاهرة -استلهم العنوان والغلاف من الكاريكاتير الشهير للشاعر والرسام صلاح جاهين- ويجمع فيه الكثير من مقالاته حول الفلسفة والظواهر الجماهيرية المرتبطة بها. لا يقدم فيه شرحاً مدرسياً للمبادئ والمفاهيم الفلسفية لكنه يحللها ويبسطها بشكل ربما يكون غير مسبوق، فهو لا يهتم بالنظرية وتفريعاتها ولا بصاحبها، قدر اهتمامه بتطبيقها على الحياة والأفكار اليومية العادية.
هنا حوار معه عن الكتاب بالتفصيل...

- متى فكّرتَ في جمع مقالاتك في كتاب؟ وما المدة التي استغرقها إعداده للنشر؟

* بدأتُ كتابة مقالات أسبوعية عن الفلسفة بالعامية المصرية في جريدة "التحرير" العام 2016، في إطار سلسلة كان عنوانها "الفهَّامة" أيضاً. بعد المقال العشرين أو الثلاثين تقريباً، شعرت أنّ تلك المقالات ربما تتحوّل إلى كتاب في يوم ما، فتعمّدت أن أكتب سلاسل من المقالات المتتالية تغطي مجالات فكرية بعينها، مثل السلاسل التي أصبحت فصولاً حول التاريخ أو الصورة.

عندما بدأت النشر في موقع "كتب مملة" (Boring Books) العام 2019، في إطار سلسلة أصبح عنوانها "موسوعة الملل"، توجهت نحو جمع المقالات في شكل كتاب، حيث بلغ عددها قرابة الـ100 مقال أو أكثر حينها، ووضعت مقدمة عامة للمشروع. اكتملت النسخة الأولى من الكتاب في أبريل 2020، وكانت تحتوي على 80 مقالاً في 8 فصول، لكن النشر تعثر آنذاك. ثم في 2021، عندما تحمست دار ديوان للنشر، وبعد العمل المثابر مع محرر الكتاب (وشريكي في الكتابة أحياناً) حسين الحاج، جمّعنا وحررنا نسخة جديدة من الكتاب تحتوي على 120 مقال مقسمة إلى 12 فصلاً، وزادت النسخة الأولى بفصول جديدة حول "العرق واللون والجنس"، و"سياسة الحكم"، و"اقتصاد الاستهلاك"، و"الأدب والنقد الأدبي".

- أنت محاط بالمبدعين. مَن أول من يقرأ مسوداتك؟ وكيف تتعامل مع التعديلات ووجهات النظر؟

* أول من كان يقرأ مسوداتي هما أبي وأمي – وليد الخشاب ومي التلمساني – وأدين لهما بفضل كبير على الصعيد اللغوي والفكري، فقد ساعداني بشكل كبير في الحفاظ على مستوى أدنى من اللغة العربية أثناء نشأتي في كندا، ورغم ابتعادي الطويل عن بيئة ثقافية تتحدث بالعربية بانتظام، احتفظت بقدرتي على الكلام والكتابة اليومية بها. ساعداني أيضاً في مناقشة وتوضيح المفاهيم التي قدمتها، بحكم تخصصهما في الأدب المقارن والدراسات السينمائية والنظريات الأدبية والثقافية. كانت تعديلاتهما واقتراحاتهما تتمحور حول اللغة بشكل أساسي، بدءاً من تصحيح الأخطاء الإملائية إلى تصحيح ما كانوا يرونه ركاكة أو "حِس الخواجة" في كتاباتي الأولى. أرجو أن أكون قد تحسّنت مع الوقت! وقد ساهما بشكل جذري أيضاً في مناقشتي حول ترجمة المفاهيم من اللغات الأوروبية إلى العربية، وإبراز جوانب غير واضحة في تلك المفاهيم، وتخفيف المصطلحات التي كنت استخدمها أحياناً. قرأ أبي وأمي جميع مقالاتي في جريدة "التحرير"، ومعظم مقالاتي في موقع "كتب مملّة"، وتتضح بصمتهما في الكتاب بلا شك.

بعد قراءتهما الأولى، كان يقرأ المسودة محرر مثل أحمد ندا في جريدة "التحرير"، أو أمير زكي وحسين الحاج في موقع "كتب مملّة"، وكانوا يعطونني بعض التعليقات الأخرى تمحورت في الغالب حول تبسيط وتوضيح النص، لكن نادراً ما كانت النقاشات الفكرية تتدخل في المرحلة التحريرية الأخيرة نظراً لضيق الوقت. كانت تلك النقاشات المتعمّقة تحدث بين نشر المقال والآخر، بين الأسبوع والثاني، عندما كنت أتلقّى ردود أفعال من القراء، بما في ذلك الكثير من الأصدقاء المذكورين في خاتمة الكتاب. لقد ساهمت تلك النقاشات في اختيار بعض المفاهيم للكتابة وتحديد موقفي منها.

- يطمح الكتاب، بحسب تقديمه، لتقريب الفلسفة من القارئ العادي. لكن ألم تخشَ أن يؤثر عدم معرفة القارئ بغالبية الفلاسفة الذين تستشهد بهم، في استقباله للكتاب؟ أو على الأقل أن يقلل من الرسائل المرجوة من الإشارة إليهم؟ خصوصاً أنك في الغالب لا تعطي معلومات عنهم ولا يبدو أن ذلك كان ضمن أهداف الكتاب...

* لا شك أن استقبال القارئ أو القارئة للكتاب سيختلف حسب المرجعية الدراسية والخلفية الاجتماعية والقراءات السابقة. وبالطبع، سيفهم القارئ المتبحر في الفلسفة والعلوم الإنسانية شيئاً مختلفاً عن القارئ الذي لم يتردّد على تلك المجالات من قبل. لكني لا أخشى مخاطبة هذا القارئ "العادي" بمادة جادة لا تستخف بعقله، بما أن الغرض الأساسي من كتاب "الفهَّامة" هو توسيع الأفق المُحتمل للتفكير في الحياة اليومية، ولا يحتاج المرء إلى معرفة أصل وفصل كل الفلاسفة حتى يشرع في مساءلة المجتمع المحيط به. لا أزعم أني أشرح كل شيء عن الفلسفة، بل أطمح إلى تقديم نكهة الفلسفة لمَن لم يستطعمها من قبل. إذا أساء القارئ فهم بعض المفاهيم أو ربطها بتاريخ فلسفي أطول، فهذا لا يعنيني بقدر ما أفسح له المجال لطرح الأسئلة والتفكير النقدي، و"الباقي عليهم" كما نقول في مصر. لا يحمل الكتاب من رسائل إلا تلك التي يستخرجها منه كل قارئ حسب اهتمامه ومرجعيته وفضوله.

- في فصل النقد الأدبي، جاء بعض المقالات لشرح وتبسيط مفاهيم نقدية وفلسفية محددة كالبنيوية والتفكيكية وغيرها بشكل مباشر، لكن في الفصول الأخرى لا تظهر النظريات بهذا الوضوح، ولا تهتم بالتعمق في شرح مبادئ ومفاهيم فلسفية بقدر اهتمامك بتطبيقها على المواقف والحياة اليومية العادية. في الأولى، النظرية مقدمة على الموقف، في حين تأتي النظرية لشرح الموقف في الثانية... هل هذه القراءة صحيحة؟

* أعتقد أنني أتفق وأختلف مع هذه القراءة في الوقت نفسه. أتفق في أني أتحدّث عن قصص وأغانٍ وأقوال وسرديات عامة في فصل النقد الأدبي، بخلاف المواقف الحياتية اليومية التي تظهر في فصول أخرى، وبهذا المعنى فالمادة النَصية التي أتفاعل معها تعطي إحساساً أكثر تجريداً عن الفصول الأخرى. سعيت في فصول اللغة والأدب والنقد الأدبي إلى استخدام نص الكتابة نفسه كوسيلة للتعبير عن المفاهيم التي شكلت موضع اهتمامي، حيث تحاكي كتابتي نفسها المادة النظرية التي أقدمها.

في المقابل، أختلف مع هذه القراءة باعتبار أن جميع الفصول تتحدث عن مفاهيم منهجية، مثل التقاطع (intersectionality) والنسوية السوداء في فصل "العرق واللون والجنس"، ومثل الوضعية والمادية الجدلية في فصل التاريخ، ومثل الحقل الفني وعالم الفن في فصل الفن، وكلها مفاهيم عامة وليست عينية، رغم أني أوصّفها باستخدام مواقف يومية. أقدّم أحياناً النظرية على الموقف، وأحياناً أخرى الموقف على النظرية، لكن الأمر لا يتعلق بفصول معيّنة دوناً عن فصول أخرى، بل يتعلق باختلاف المقالات بعضها عن البعض. فحتى في فصل النقد الأدبي، الذي يغلب عليه الطابع النظري كما أشرت، هناك مقالٌ كامل عن أغنية "الشتا" لمحمد منير، وهو يشرح فكرة "تأثير الواقع" بحسب رولان بارت. وفي المقابل، يتركز مقال "تقسيم المحسوس" (partage du sens) حسب جاك رانسيير حول قضية نظرية منهجية، رغم تركيز فصل سياسة الحكم عموماً على الأمور اليومية.

- الواضح من المقدمة أنك كنت تتخوف من استخدام العامية المصرية في الكتاب، لكنك فعلت ذلك في النهاية. لعلك تتابع الجدل الدائر مؤخراً حول استخدام العامية في مقالات وترجمات. لن أسألك إلى أي الفريقين تميل لأنه واضح من الكتاب، لكني سأسألك عن الأسباب التي دعتك للاستمرار رغم التخوف؟ كما أن استخدام العامية ربما يتسبب في خسارتك لكثير من القراء العرب، والأهم أنه ربما ينقل إحساس بالخفة في قضايا بالغة التعقيد والأهمية..

* كانت مخاوفي الأولى هي مخاوف أي كاتب، بغض النظر عن لغة كتابته، فسألت أولاً: هل أجد اللغة والأسلوب المناسبَين للتعبير عن أفكاري؟ هل أنجح في التواصل مع القارئ برغم تعقيد الموضوع؟ لم يكن التخوف من العامية في المقام الأول، بل من الكتابة عموماً – عامية كانت أم فصيحة. عندما اتخذت قرار الكتابة، ظهرت تخوفات أخرى بخصوص العامية تحديداً: هل أجد مَن ينشر تلك المقالات؟ هل تتخذني القارئة العادية على مَحمل الجد؟ ما زالت تلك التخوفات قليلاً مع الوقت، أولاً لأني وجدت نماذج أخرى من الكتابة الجادة بالعامية المصرية آنذاك، وأقواها في ذاكرتي هي مقالات الدكتور خالد فهمي في موقع "مدى مصر"، وثانياً لأن مقالاتي الأولى في جريدة التحرير لاقت اهتماماً وتشجيعاً كبيراً بين أصدقائي من الصحافيين والأدباء والكتاب، وسرعان ما تجاوزوا الجدل المعتاد بين العامية والفصحى نظراً لقيمة المادة الفلسفية الجديدة التي قدمتها.

أريد أن أضيف نقطة أخرى بخصوص الجدل الدائر حول الكتابة بالعامية. لم أرَ نفسي أبداً كداعية أيديولوجي للكتابة بالعامية، ولا أنتمي إلى فريق ضد الآخر، فأنا أكتب بالعامية وبالفصحى على حد سواء، كما أكتب بالإنكليزية والفرنسية والإسبانية أحياناً. إذا كنت أدعو إلى شيء ما، فهو التعدد اللغوي وتعدد المستويات اللغوية المستخدمة في الكتابة الأدبية وغير الأدبية. لا أظن أن الكتابة بالعامية تحتاج إلى دفاع "فريقها"، فليس هناك أي خلاف حول ثراء وجدوى تراثها المكتوب، لكني لا أفهم المعاداة الشديدة للكتابة بالعامية عند بعض المثقفين، فهي تبدو لي كمعاداة الكتابة بالإنكليزية أو الفرنسية أو الإسبانية بالضبط. أتفق أننا بحاجة إلى كتابة جيدة، لكن جودة الكتابة لا تقتصر على مستوى لغوي واحد وأوحد. قيل لي أحياناً أن محتوى كتابي ممتاز، لكن ليتك كتبته بالفصحى! ولي أن أقول: هل تطالبون الكُتّاب الأوروبيين أو الأفارقة أو اليابانيين بالامتناع عن الكتابة بلغاتهم المحلية؟ وإذا استطاع المرء القراءة بتلك اللغات، لماذا يمتنع عنها؟ يبدو لي الامتناع في الحالتين كنوع عجيب من الإصرار على الجهل.

- هناك بعض الانفعال الملحوظ في الواقع، خصوصاً في المقالات المكتوبة بالفترة التي تلت الثورة مباشرة. هل فكرت في مراجعة وتخفيف هذه المادة، خصوصاً أنك ربما تكون أنت نفسك قد تجاوزت الانفعال؟ وربما عملاً بالنصيحة الشهيرة بتأجيل الكتابة عن لحظة الثورة..

* ما زلت منفعلاً في سري! ولا أرى تناقضاً بين الانفعال والرزانة في التعامل مع الواقع التاريخي، وبالأخص الواقع المؤلم الذي تعيشه الشعوب العربية منذ عقود. أرى أن مَن يدعي تجاوز هذا الواقع، يصطنع صورة كاذبة وزائفة، أي صورة المفكر الرزين الحكيم الذي يقف فوق التاريخ والبشر. لكني من البشر وإليهم، وكتبتُ ما كتبته في الظرف التاريخي الذي عشته، ولم أفكر في مراجعة أو تخفيف المتن حتى لا أشوه الكتابة التي كانت وليدة لحظتها.

- مع كل فصل، تركز على فلاسفة ومفكرين بعينهم. هل فكرت في مقدمة تلخص فكر هؤلاء وتبسطه مثلاً؟ 

* إذا شرعت في مثل هذه المقدمة لكتبتُ كتاباً آخر كاملاً! لم أفكر في مقدمة تقليدية بسبب القرار الجذري الذي تبنّيته، وهو دعوة القارئ للتفكير انطلاقاً من الحياة اليومية القاهرية والمفاهيم التي تستثيرها، بدلاً من التفكير التقليدي في مدارس الفلسفة والسلاسل الأبوية من المفكرين التي تنطلق من سقراط وأفلاطون وتمر بابن رشد وابن سينا وتنتهي مع هيغل وهايدغر. تتكرر بعض الأسماء في كتابي، فربما كنت أستطيع كتابة فصول كاملة حول كارل ماركس أو جيل دولوز مثلاً، لكني اخترت التشعّب المفاهيمي بدلاً من التخصّص الفلسفي حتى أظهِر اشتباك الفكر مع حياة البشر. لست مُدرّساً للفلسفة، بل داعياً لممارستها.

- هل يمكن أن يكون هذا مشروع تنجزه مستقبلاً؟ أقصد التخصّص في فيلسوف أو مفكر واحد..

* تعاني الساحة الثقافية العربية من سطوة التفكير الأحادي، فيظن الكثيرون أن حل مشاكلنا يمكن أن يأتي من رجل واحد أو خبير واحد أو حتى مفكر واحد – وهو غالباً رجل بالطبع! تمتلئ الأسواق بالكتب التي تشرح فكر فلان أو علان، ولا أطمح لإضافة كتابات جديدة في هذا الحقل، فلا أظننا بحاجة إلى المزيد من تلك الكتب، التي يساهم فيها أساتذة الفلسفة بانتظام. إننا نحتاج إلى ربط وسيط بين المتخصّص والقارئ العام، وأتمنى أن توسّع كتاباتي دائماً رقعة القراءة الفلسفية وآفاق القارئ، فكثيراً ما تجبره الحياة على إغلاق آفاقه بالفعل.

- بمناسبة الحديث عن الحلول، ربّما يقول قائل إن الكتاب لا يقدم أي حلول، فإن كان كل شيء مشروحاً ومفسراً من قبل، من أعقد الأسئلة، وصولاً إلى خزائن الصحون في الشقق، إن كان كل ما فكّرت فيه فكّر ونظّر فيه آخرون قبلي فأين الحل النهائي ومن يملكه؟

* أتعمّد في الكتاب ألا أقدم الحلول، فهناك الكثير من الخبراء المحترمين الذين يرتدون البذلات المحترمة، والكرافاتات المحترمة ويتحدثون بألفاظ محترمة في كل الجرائد والتلفزيونات والمواقع المحترمة، عن كل الحلول المتاحة لكل أزماتنا الحالية. لا أرى دور الفلسفة في تقديم الحل، ومَن يبحث فيها عن الطمأنينة أو الاستقرار الذاتي، فهو يبحث في المكان الخاطئ. الفلسفة هي ما تساعدنا على مساءلة الواقع الذي نعيشه، هي ما تدعونا لتجاوز الرؤى المهيمنة عن الواقع، هي ما تحثنا على إيجاد خطوط الانفلات عندما يتقدم الخبراء المحترمين باختيارات محدودة: رجل أم امرأة؟ مصري أم أجنبي؟ أم كلثوم أم عبد الوهاب؟ شفيق أم مرسي؟ معنا أم ضدنا؟ يدعو كتاب الفهَّامة إلى التساؤل الدائم ونقد الواقع والبحث عن حلول أخرى تتجاوز حد الحلول التي تنبع من تصورات ضيقة عن طبيعة الحال وسقف طموحاتنا. لا أزعم أني قدمت تفسيراً نهائياً للواقع، أو منظومة فلسفية كاملة ومتكاملة تشرحه، فلا حلول نهائية إلا عند انتهاء الحياة نفسها. أحاول فقط أن أشير إلى طرق مختلفة للتفكير في الواقع اليومي والتفاعل معه. يعني الكتاب مجرَّد فَتح كلام.

- أخيراً، أشرتَ في الكتاب إلى قلة الترجمات الفلسفية المتاحة بالعربية. ما تفسيرك الشخصي لهذا الأمر في ظل النشاط الملحوظ لعمليات الترجمة في الأدب مثلاً؟

* أرى أكثر من سبيل لتفسير الأمر. على الصعيد الكَمي، هناك فرقٌ شاسع بين عدد الترجمات المنشورة في العالم العربي والمنشور منها في فرنسا أو إسبانيا مثلاً، وتتركز غالبية الترجمات في حقل الإنتاج الأدبي الروائي، وبالتالي كثيراً ما تنقص الترجمات الكلاسيكية الأساسية في حقل الفلسفة والعلوم الاجتماعية والإنسانية. على الصعيد الاقتصادي، تتعثر حركة الترجمة في العالم العربي لأسباب مادية معروفة، ومنها أزمات الورق وثمن حقوق النشر وعدم تقدير مجهود المترجمين مالياً، مما لا يدعو لتشجيع الترجمات غير المُربحة، أي غالباً ترجمات النصوص غير الأدبية. وأخيراً على الصعيد الفكري، فالمترجمون الذين يتمتعون بالقدر الكافي من الدراية الفلسفية والفكرية حتى يفهموا النصوص أولاً، ثم يترجموها، ثم تكون مفهومة ومقروءة أخيراً، قلة قليلة للغاية. وحتى عند توافر كل هذه الصفات في المترجم، كثيراً ما ينتهي الأمر إلى ترجمات معقدة غير مفهومة بالمرة، حتى لمَن قرأ النص الأصلي! تتطلّب الترجمة الفلسفية عملاً يتراوح بين اللغة والمشاعر والفكر، سواء كان في اللغة الأولى أو اللغة الثانية، وقلما امتلك المترجم تلك الملَكات جميعها، ربما بحكم نوع دراسة المترجمين المحترفين المعتاد في العالم العربي. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها