- في فصل النقد الأدبي، جاء بعض المقالات لشرح وتبسيط مفاهيم نقدية وفلسفية محددة كالبنيوية والتفكيكية وغيرها بشكل مباشر، لكن في الفصول الأخرى لا تظهر النظريات بهذا الوضوح، ولا تهتم بالتعمق في شرح مبادئ ومفاهيم فلسفية بقدر اهتمامك بتطبيقها على المواقف والحياة اليومية العادية. في الأولى، النظرية مقدمة على الموقف، في حين تأتي النظرية لشرح الموقف في الثانية... هل هذه القراءة صحيحة؟
* أعتقد أنني أتفق وأختلف مع هذه القراءة في الوقت نفسه. أتفق في أني أتحدّث عن قصص وأغانٍ وأقوال وسرديات عامة في فصل النقد الأدبي، بخلاف المواقف الحياتية اليومية التي تظهر في فصول أخرى، وبهذا المعنى فالمادة النَصية التي أتفاعل معها تعطي إحساساً أكثر تجريداً عن الفصول الأخرى. سعيت في فصول اللغة والأدب والنقد الأدبي إلى استخدام نص الكتابة نفسه كوسيلة للتعبير عن المفاهيم التي شكلت موضع اهتمامي، حيث تحاكي كتابتي نفسها المادة النظرية التي أقدمها.
في المقابل، أختلف مع هذه القراءة باعتبار أن جميع الفصول تتحدث عن مفاهيم منهجية، مثل التقاطع (intersectionality) والنسوية السوداء في فصل "العرق واللون والجنس"، ومثل الوضعية والمادية الجدلية في فصل التاريخ، ومثل الحقل الفني وعالم الفن في فصل الفن، وكلها مفاهيم عامة وليست عينية، رغم أني أوصّفها باستخدام مواقف يومية. أقدّم أحياناً النظرية على الموقف، وأحياناً أخرى الموقف على النظرية، لكن الأمر لا يتعلق بفصول معيّنة دوناً عن فصول أخرى، بل يتعلق باختلاف المقالات بعضها عن البعض. فحتى في فصل النقد الأدبي، الذي يغلب عليه الطابع النظري كما أشرت، هناك مقالٌ كامل عن أغنية "الشتا" لمحمد منير، وهو يشرح فكرة "تأثير الواقع" بحسب رولان بارت. وفي المقابل، يتركز مقال "تقسيم المحسوس" (partage du sens) حسب جاك رانسيير حول قضية نظرية منهجية، رغم تركيز فصل سياسة الحكم عموماً على الأمور اليومية.
- الواضح من المقدمة أنك كنت تتخوف من استخدام العامية المصرية في الكتاب، لكنك فعلت ذلك في النهاية. لعلك تتابع الجدل الدائر مؤخراً حول استخدام العامية في مقالات وترجمات. لن أسألك إلى أي الفريقين تميل لأنه واضح من الكتاب، لكني سأسألك عن الأسباب التي دعتك للاستمرار رغم التخوف؟ كما أن استخدام العامية ربما يتسبب في خسارتك لكثير من القراء العرب، والأهم أنه ربما ينقل إحساس بالخفة في قضايا بالغة التعقيد والأهمية..
* كانت مخاوفي الأولى هي مخاوف أي كاتب، بغض النظر عن لغة كتابته، فسألت أولاً: هل أجد اللغة والأسلوب المناسبَين للتعبير عن أفكاري؟ هل أنجح في التواصل مع القارئ برغم تعقيد الموضوع؟ لم يكن التخوف من العامية في المقام الأول، بل من الكتابة عموماً – عامية كانت أم فصيحة. عندما اتخذت قرار الكتابة، ظهرت تخوفات أخرى بخصوص العامية تحديداً: هل أجد مَن ينشر تلك المقالات؟ هل تتخذني القارئة العادية على مَحمل الجد؟ ما زالت تلك التخوفات قليلاً مع الوقت، أولاً لأني وجدت نماذج أخرى من الكتابة الجادة بالعامية المصرية آنذاك، وأقواها في ذاكرتي هي مقالات الدكتور خالد فهمي في موقع "مدى مصر"، وثانياً لأن مقالاتي الأولى في جريدة التحرير لاقت اهتماماً وتشجيعاً كبيراً بين أصدقائي من الصحافيين والأدباء والكتاب، وسرعان ما تجاوزوا الجدل المعتاد بين العامية والفصحى نظراً لقيمة المادة الفلسفية الجديدة التي قدمتها.
أريد أن أضيف نقطة أخرى بخصوص الجدل الدائر حول الكتابة بالعامية. لم أرَ نفسي أبداً كداعية أيديولوجي للكتابة بالعامية، ولا أنتمي إلى فريق ضد الآخر، فأنا أكتب بالعامية وبالفصحى على حد سواء، كما أكتب بالإنكليزية والفرنسية والإسبانية أحياناً. إذا كنت أدعو إلى شيء ما، فهو التعدد اللغوي وتعدد المستويات اللغوية المستخدمة في الكتابة الأدبية وغير الأدبية. لا أظن أن الكتابة بالعامية تحتاج إلى دفاع "فريقها"، فليس هناك أي خلاف حول ثراء وجدوى تراثها المكتوب، لكني لا أفهم المعاداة الشديدة للكتابة بالعامية عند بعض المثقفين، فهي تبدو لي كمعاداة الكتابة بالإنكليزية أو الفرنسية أو الإسبانية بالضبط. أتفق أننا بحاجة إلى كتابة جيدة، لكن جودة الكتابة لا تقتصر على مستوى لغوي واحد وأوحد. قيل لي أحياناً أن محتوى كتابي ممتاز، لكن ليتك كتبته بالفصحى! ولي أن أقول: هل تطالبون الكُتّاب الأوروبيين أو الأفارقة أو اليابانيين بالامتناع عن الكتابة بلغاتهم المحلية؟ وإذا استطاع المرء القراءة بتلك اللغات، لماذا يمتنع عنها؟ يبدو لي الامتناع في الحالتين كنوع عجيب من الإصرار على الجهل.
- هناك بعض الانفعال الملحوظ في الواقع، خصوصاً في المقالات المكتوبة بالفترة التي تلت الثورة مباشرة. هل فكرت في مراجعة وتخفيف هذه المادة، خصوصاً أنك ربما تكون أنت نفسك قد تجاوزت الانفعال؟ وربما عملاً بالنصيحة الشهيرة بتأجيل الكتابة عن لحظة الثورة..
* ما زلت منفعلاً في سري! ولا أرى تناقضاً بين الانفعال والرزانة في التعامل مع الواقع التاريخي، وبالأخص الواقع المؤلم الذي تعيشه الشعوب العربية منذ عقود. أرى أن مَن يدعي تجاوز هذا الواقع، يصطنع صورة كاذبة وزائفة، أي صورة المفكر الرزين الحكيم الذي يقف فوق التاريخ والبشر. لكني من البشر وإليهم، وكتبتُ ما كتبته في الظرف التاريخي الذي عشته، ولم أفكر في مراجعة أو تخفيف المتن حتى لا أشوه الكتابة التي كانت وليدة لحظتها.
- مع كل فصل، تركز على فلاسفة ومفكرين بعينهم. هل فكرت في مقدمة تلخص فكر هؤلاء وتبسطه مثلاً؟
* إذا شرعت في مثل هذه المقدمة لكتبتُ كتاباً آخر كاملاً! لم أفكر في مقدمة تقليدية بسبب القرار الجذري الذي تبنّيته، وهو دعوة القارئ للتفكير انطلاقاً من الحياة اليومية القاهرية والمفاهيم التي تستثيرها، بدلاً من التفكير التقليدي في مدارس الفلسفة والسلاسل الأبوية من المفكرين التي تنطلق من سقراط وأفلاطون وتمر بابن رشد وابن سينا وتنتهي مع هيغل وهايدغر. تتكرر بعض الأسماء في كتابي، فربما كنت أستطيع كتابة فصول كاملة حول كارل ماركس أو جيل دولوز مثلاً، لكني اخترت التشعّب المفاهيمي بدلاً من التخصّص الفلسفي حتى أظهِر اشتباك الفكر مع حياة البشر. لست مُدرّساً للفلسفة، بل داعياً لممارستها.
- هل يمكن أن يكون هذا مشروع تنجزه مستقبلاً؟ أقصد التخصّص في فيلسوف أو مفكر واحد..
* تعاني الساحة الثقافية العربية من سطوة التفكير الأحادي، فيظن الكثيرون أن حل مشاكلنا يمكن أن يأتي من رجل واحد أو خبير واحد أو حتى مفكر واحد – وهو غالباً رجل بالطبع! تمتلئ الأسواق بالكتب التي تشرح فكر فلان أو علان، ولا أطمح لإضافة كتابات جديدة في هذا الحقل، فلا أظننا بحاجة إلى المزيد من تلك الكتب، التي يساهم فيها أساتذة الفلسفة بانتظام. إننا نحتاج إلى ربط وسيط بين المتخصّص والقارئ العام، وأتمنى أن توسّع كتاباتي دائماً رقعة القراءة الفلسفية وآفاق القارئ، فكثيراً ما تجبره الحياة على إغلاق آفاقه بالفعل.
- بمناسبة الحديث عن الحلول، ربّما يقول قائل إن الكتاب لا يقدم أي حلول، فإن كان كل شيء مشروحاً ومفسراً من قبل، من أعقد الأسئلة، وصولاً إلى خزائن الصحون في الشقق، إن كان كل ما فكّرت فيه فكّر ونظّر فيه آخرون قبلي فأين الحل النهائي ومن يملكه؟
* أتعمّد في الكتاب ألا أقدم الحلول، فهناك الكثير من الخبراء المحترمين الذين يرتدون البذلات المحترمة، والكرافاتات المحترمة ويتحدثون بألفاظ محترمة في كل الجرائد والتلفزيونات والمواقع المحترمة، عن كل الحلول المتاحة لكل أزماتنا الحالية. لا أرى دور الفلسفة في تقديم الحل، ومَن يبحث فيها عن الطمأنينة أو الاستقرار الذاتي، فهو يبحث في المكان الخاطئ. الفلسفة هي ما تساعدنا على مساءلة الواقع الذي نعيشه، هي ما تدعونا لتجاوز الرؤى المهيمنة عن الواقع، هي ما تحثنا على إيجاد خطوط الانفلات عندما يتقدم الخبراء المحترمين باختيارات محدودة: رجل أم امرأة؟ مصري أم أجنبي؟ أم كلثوم أم عبد الوهاب؟ شفيق أم مرسي؟ معنا أم ضدنا؟ يدعو كتاب الفهَّامة إلى التساؤل الدائم ونقد الواقع والبحث عن حلول أخرى تتجاوز حد الحلول التي تنبع من تصورات ضيقة عن طبيعة الحال وسقف طموحاتنا. لا أزعم أني قدمت تفسيراً نهائياً للواقع، أو منظومة فلسفية كاملة ومتكاملة تشرحه، فلا حلول نهائية إلا عند انتهاء الحياة نفسها. أحاول فقط أن أشير إلى طرق مختلفة للتفكير في الواقع اليومي والتفاعل معه. يعني الكتاب مجرَّد فَتح كلام.
- أخيراً، أشرتَ في الكتاب إلى قلة الترجمات الفلسفية المتاحة بالعربية. ما تفسيرك الشخصي لهذا الأمر في ظل النشاط الملحوظ لعمليات الترجمة في الأدب مثلاً؟
* أرى أكثر من سبيل لتفسير الأمر. على الصعيد الكَمي، هناك فرقٌ شاسع بين عدد الترجمات المنشورة في العالم العربي والمنشور منها في فرنسا أو إسبانيا مثلاً، وتتركز غالبية الترجمات في حقل الإنتاج الأدبي الروائي، وبالتالي كثيراً ما تنقص الترجمات الكلاسيكية الأساسية في حقل الفلسفة والعلوم الاجتماعية والإنسانية. على الصعيد الاقتصادي، تتعثر حركة الترجمة في العالم العربي لأسباب مادية معروفة، ومنها أزمات الورق وثمن حقوق النشر وعدم تقدير مجهود المترجمين مالياً، مما لا يدعو لتشجيع الترجمات غير المُربحة، أي غالباً ترجمات النصوص غير الأدبية. وأخيراً على الصعيد الفكري، فالمترجمون الذين يتمتعون بالقدر الكافي من الدراية الفلسفية والفكرية حتى يفهموا النصوص أولاً، ثم يترجموها، ثم تكون مفهومة ومقروءة أخيراً، قلة قليلة للغاية. وحتى عند توافر كل هذه الصفات في المترجم، كثيراً ما ينتهي الأمر إلى ترجمات معقدة غير مفهومة بالمرة، حتى لمَن قرأ النص الأصلي! تتطلّب الترجمة الفلسفية عملاً يتراوح بين اللغة والمشاعر والفكر، سواء كان في اللغة الأولى أو اللغة الثانية، وقلما امتلك المترجم تلك الملَكات جميعها، ربما بحكم نوع دراسة المترجمين المحترفين المعتاد في العالم العربي.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها