الأربعاء 2023/02/15

آخر تحديث: 12:52 (بيروت)

"إيو" جيرزي سكوليموفسكي.. حمار في فوضى الإنسان

الأربعاء 2023/02/15
"إيو" جيرزي سكوليموفسكي.. حمار في فوضى الإنسان
العالم مكان غامض، لا سيما حين نراه بعينَي حمار
increase حجم الخط decrease
"إيو"، بطل هذا الفيلم الذي يعطيه عنوانه، حمارٌ رمادي لطيف مسالم بعينين حزينتين. نلتقي به أولاً في السيرك، حيث تربطه علاقة وثيقة مع مروّضته وحبيبته كاساندرا. لكن حتى هذا الحب قاصر للأسف، لأنها ليست دائماً قادرة على حمايته. "يُنقَذ" إيو من السيرك ومن "الإساءة" المزعومة للحيوانات بحسب نشطاء حقوق الحيوان، في واحدة من أكثر اللحظات الساخرة في الفيلم، التي لا يبخل فيها المخرج جيرزي سكوليموفسكي بإظهار مدى سخافة وقصر نظر وبدائية مهمة "حماية الحيوان" هذه.


إنقاذ الحمار التعيس من عبوديته في السيرك (بحسب نشطاء حقوق البيئة والحيوان) سيستحيل سلسلة من الأحداث المؤسفة، ما سيشكّل منعطفاً أساسياً في هذه الحالة. من هنا تبدأ رحلة الحمار، التي يسردها الفيلم في سلسلة من الفصول القصيرة، ينتقل فيها من مزرعة خيول ثرية (حيث سيعاني ما يشبه أزمة هوية) ثم إلى بيئة أكثر شمولاً في حديقة حيوانات، ثم إلى الشوارع وإلى شقوق أعمق في الحياة الحضرية. سينتهي الأمر أيضاً بالحمار على رصيف مسلخ، لكن ستأتي معجزة لإنقاذه، وسيأخذه تحت جناحه كاهن إيطالي (ربما زائف لكن المؤكد أنه غامض).

حقيقة اضطلاع حمار ببطولة هذا الفيلم تستدعي على الفور في الأذهان الفيلم الكلاسيكي "هازار بالتازار" (1967، روبير بريسون)، ولا يُخفي الفيلم ولا صانعه سرّاً حول هذه النقطة، لأن فيلم بريسون هو أيضاً ما دار في ذهن سكوليموفسكي عندما قرر إنجاز فيلم بطله حمار. قال عنه في مهرجان "كانّ" إنه "الفيلم الوحيد في حياتي الذي أبكاني". إذاً، هذا فيلم آخر عن حمار يمرّ بوقت سيء في عالم البشر. إلا أن ثمة فروقات كبيرة.

يعيد سكوليموفسكي سرد حكاية بريسون الأخلاقية القديمة، لكنه يفعلها بطريقة معاكسة تقريباً: عبر ملء فراغاتها. في عمل بريسون لم يتجاوز الحمار دوره كمرآة مجازية لمشاكل البشر وخطاياهم، أما الآن فيتعلّق الأمر بالحمار نفسه، ونظرته إلى العالم. اهتم بريسون بحماره بقدر ما نجح في تظهير عجز البشر وإطلاق العنان لجماليات الشفقة. أما سكوليموفسكي، بوضعه الحمار في المركز، فيحاول أن يروي شيئاً مثل استعارة، أو على الأقل سجلاً، للسلوك البشري، والسعي البشري، والاجتماع البشري. في الوقت نفسه، يعطي للحيوان قيمة جوهرية غير متوقعة: هنا لم يعد موجوداً من أجل "الآخرين"، ولا الناس، ولا حتى "نفسه"، وإنما هو موجود مثل كل الكائنات والموجودات الأخرى.

إلا أن الحمار، مثال البراءة والنقاء، يُستغل وتُساء معاملته، لأن العالم، عالم سكوليموفسكي، سيء وفاشل. ربما كان الأمر كذلك بالفعل في السيرك، لكن بالنظر لما يعانيه الحمار طوال الفيلم، منتقلاً من سيّد إلى آخر ومن يدّ إلى يدّ؛ يُظهر الفيلم عالماً قاسياً وعنيفاً ومليئاً بالشرّ، وأوروبا على شفا الفناء، يسودها الغباء والتعصّب وغياب الرحمة.

 

يعرف سكوليموفسكي، بعدما صار عجوزاً في منتصف الثمانينيات، أن بالإمكان تأويل كل أنواع الأفكار (الذكية؟) على وجه حمار (غبي؟). يزداد وقع الأمر في وقتٍ تُنتج فيه بشكل متزايد أفلام "حيوانية" ليس فيها بشر، تسرد قصصاً عن حيوان ما، يؤنسَن ويُشخصَن بشيء من الذاتية والمنظور: أفلام مثل "غوندا" (2020، فيكتور كوساكوفسكي) أو "بقرة" (2021، أندريا أرنولد) لها مزاياها، وهما أيضاً عن البشر، وليسا سيئين إطلاقاً. لكن يعوزهما التعقيد (الفلسفي) والغوص أكثر في جوهر ما يريدان قوله، وببساطة لا يصلان إلى مستوى الخطاب المفترض بهما مخاطبته، والذي، بالطبع، لا يهمّ جمهوراً يعتبر الفلسفة في أفضل الأحوال فناًّ للعيش، وينظِّر بشكل متزايد في المقالات الافتتاحية والبرامج الحوارية لرؤية البشر باعتبارهم عبئاً زائداً أكثر من كونهم مشكلة.

اليوم، من ذا الذي ما زال مهتماً بالكتب التي تتحدث عن "التفكير في الغابة" و"أخلاقيات عيش الغراب"، والعناوين الرئيسية لعلماء طبيعة (غربيين بالطبع) يفكّرون بجدية في "حقوق الإنسان للقرود"؟ اليوم، يُعتبر "الإنسان" تهديداً عالمياً "للحياة"، ولم يعد - خصوصاً بالنظر إلى أخطائه في حق بيئته - جزءاً من الطبيعة. منذ فترة طويلة ظهرت مصطلحات "ما بعد الإنسانية" من قِبل العديد من المُنظّرين اليساريين، أو النسخة الأخرى من "ما بعد الإنسانية" من قبل اليمينيين والليبراليين الجدد؛ وكلاهما ارتحال مختلف عن الفكرة التقليدية حول مركزية الإنسان. أين يقف فيلم سكوليموفسكي من مجالات الخطاب هذه، هو المهتم كذلك بالتعبير عن/وتشكيل الغضب تجاه الواقع البشري؟

"إيو" هو فيلم الهُنا والآن، لخيال خلّاق، لعالم أقل جنوناً وأكثر تفهّماً؛ يموضع نفسه كخطاب في صُلب "الأنثروبوسين"، لا يُقصد به أن يكون بياناً شاجباً أو وعداً مجانياً، بل مطلباً يجب على الإنسان توقيعه بختم الطبيعة. إلا أن "إيو" يذهب بعيداً جداً. هذا عمل مليء بالضوضاء والطاقة، وزاخر بالغضب اللاهث. يسبح سكوليموفسكي ضد التيار (السائد والبديل)، مستعداً لتسوية الحسابات مع الوضع الحالي للعالم، من دون معرفة أي الخيارات أفضل.

قال المخرج إن العمل مع الممثلين الذين شغلوا أفلامه من قبل كان يعتمد على العمل الفكري، في حين أن التجربة مع "إيو" غيّرت طريقة عمله: "السلاح الوحيد الذي امتلكته لتوجيه الحمير الستة الذين لعبوا شخصية إيو، كانت الرقة"، كما قال في المؤتمر الصحافي عقب عرض الفيلم للمرة الأولى في مهرجان "كان". كما تحدّث عن "الفردانية" و"الطبيعة الخصوصية" للحمير. ربما يكون هذا الحديث مبتذلاً بعض الشيء، أو ساخراً بعض الشيء، أو على العكس من ذلك، جاداً أكثر من اللازم. في الحالتين، النتيجة النهائية مذهلة للغاية. لأن الأهم هنا هو التجربة الذاتية والحسّية للفيلم. لا شيء واضحاً في هذا الفيلم، كل شيء مثير ومفتوح ومُخاطِر.

في عمر الـ84، يُظهر سكوليموفسكي نفسه صوتاً من الهامش الناشز، يحمل روح "هيبي" شاب ما زال يحلم بعالم أفضل. يعارض الأجندات السياسية المبتذلة لحاضرنا، بأجندة جمالية قاطعة. ينجز أحد أكثر أعماله جرأة وحريّة. فيلم يخرج عن القاعدة ويراوغ التوقعات تماماً، محموم (كما في الأحلام الغامرة) ومُخاطر (في زمنٍ عزَّت فيه المخاطرات السينمائية) ومتقلّب (بما يفتح الباب واسعاً للتأمل والتفكُّر) بقدر ما هو محفّز وأصيل ونادر. أحد أفضل أفلام العام بلا شكّ.

 

(*) يُعرض حالياً في القاهرة، ورُشّح لجائزة أوسكار عن فئة أفضل فيلم دولي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها