الثلاثاء 2023/02/14

آخر تحديث: 13:00 (بيروت)

إلى أنسي في ذكراه...المقاتل أيضاً استمع لفيروز في دشمته

الثلاثاء 2023/02/14
إلى أنسي في ذكراه...المقاتل أيضاً استمع لفيروز في دشمته
أنسي الحاج دعا في بداياته الشعرية إلى "الهدم الهدم الهدم"
increase حجم الخط decrease
تابعتُ مقاطع من فيلم "سنوات الضوء"، ومقابلة مع الشاعر الراحل أنسي الحاج (1937 - 18 فبراير/شباط 2014)، منشورة في "يوتيوب" ووسائل التواصل الاجتماعي. بعض مما قاله شاعر "لن" و"ماضي الأيام الآتية"، يستدعي التأمل والاستدراك، بغض النظر عن كلامه عن فيروز ولبنانها وشاعرية صوتها وكونها تجسّد مع عاصي ومنصور "واقعاً ما" للبنان الواقع، أو تطرّقه إلى مجلة "شعر" وشعرائها ونقاشاتها وخمائسها الديموقراطية، أو حديثه عن جريدة "النهار" وتعدّديتها وأطرها وأصحابها، أو حنينه إلى شارع الحمرا ومنطقة رأس بيروت ومقاهيهما (الهورس شو، والدولتشي فيتا) التي كانت تستقبل السياسيين والشعراء والكتّاب وثقافة الاعتراض... فما قاله في هذا المجال متوقّع ومألوف ومستعاد، قرأناه في خواتمه وكتبه.

ما لفتني أنه تحدّث في أمور معقّدة، بشيء من البراءة و"الإيمان"، وتحديداً قوله "لم يكن يعجبنا لبنان"، بقينا نشدّ به حتى "فقع بين يدينا"، ولأنه كان يريد "لبنان الحلم" و"المبالغة في الحلم كابوس"، كما يقول. وهنا يبدو كأنه يمارس نوعاً من جَلد الذات، يتحمّل مسوؤلية "خطايا لم يرتكبها". وهو كشاعر غاضب، تحدّث عن الكتابات التي "خرقت سقف الحرية" في الستينيات، وذكر في هذا السياق كتاباته عن رئيس الجمهورية، شارل حلو من أجل أن "يفش خلقه"، وكيف كان يكتب عنه ويُعلي السقف من دون أن يعترضه أحد، ولم يُطلَق عليه الرصاص... بالطبع يأتي كلامه مقارنة مع لبنان في السنوات الأخيرة.

أنسي الحاج الذي كان يدير "ملحق النهار"، وفي بداياته الشعرية دعا إلى "الهدم الهدم الهدم"، تولّى الدفاع عن مجموعة من القضايا الثقافية في المحاكم اللبنانية، بدءاً من قضية قصص الروائية ليلى بعلبكي، مروراً بقضية المفكر السوري صادق جلال العظم و"نقد الفكر الديني"... (المفارقة أنّ أنسي الحاج ذهب في سنواته الأخيرة للعمل في إعلامٍ كان دأبه محاربة الرأي الآخر والتحريض والدعوة إلى "تحسّس الرقاب"). بالتأكيد كانت بيروت الستينيات فضاءً للحرية، وكانت الكتابة عن شارل حلو سهلة، هو الأديب والصحافي والسياسي، لكن ماذا عن غيره؟ الصحافي كامل مروة لم يمت في حادث سير أو رصاصة طائشة، قتل عن سابق تصور وتصميم بسبب كلماته وفي مكتبه... هنا نعود إلى كلمات الحاج حول الشدّ بالوطن والانفجار. ثمّة التباس في التوصيف، بين الحرية العالية السقف والشدّ. ويقرأ كثر عن تلك المرحلة الغارقة في التيارات الإيديولوجية والحزبية والأفكار و"التخبيصات" والمشاريع والأحلام العالمية والعربية والأممية وشعارات "دم حديد نار"، التي وصفها سياسي بأنها شاورما،.. يُقرأ أنها كانت بداية التأسيس للانفجار الكبير، ربما هذا ما قاله الحاج بشكل مختصر.


وفي حديث أنسي الحاج، بدا يوتوبياً في مكان ما، خصوصاً حديثه عن الجمال والموناليزا، وصوت فيروز التي يحبها بإرهاب، ذروة الجمال بالنسبة إليه، فقال: "لو بيروت معمّرة مثل باريس لكان الذي يقوص استحى من جمالها"، ويعطى مثلاً نموذج هتلر النازي الذي لم يدمّر باريس بعد احتلالها... وفي هذا الكلام شيء من التبسيط بل الخفّة في مقاربة الأمور وتوصيفها وتأويلها... أنسي البارع والمدهش في نثره، وفي إضفاء بعد ذهني وذهبي على اللغة المسبوكة، يعشق الجمال، يعبده ويعتبره "الخلاص"، ويدعو الكتابة إلى وليمة الخلاص ربّما انطلاقاً من مقولة دوستويفسكي: "الجمال سيخلّص العالم". أرسطو ذهب إلى جمال الفن، كمحاكاة للطبيعة، إلا أنه أسند له دوراً ريادياً في تطهير النفوس من الانفعالات الضّارة.

الربط بين الجمال وتأثيره العام، فيه شيء من الاعتباطية والأحلام اليوتوبية... صوت فيروز لم يمنع الحرب، والمُقاتل كان يسمع صوتها في دشمته. كما أن دعوات جون لينون إلى "الحب لا الحرب"، كان لها تأثيرها، لكنها لم تمنع الحروب. بيروت كانت توصف بـ"درّة الشرق" و"باريس الشرق"، وأُحرِقتْ. ولم يستحِ المقاتل أو القاتل من قراميد بيوتها العثمانية، ولا من ساعة زهورها، ولا من ساعة برلمانها، ولا من مبانيها الكولونيالية الفرنسية، ولا من أمكنتها الدينية وآثارها، ولا من مقاهيها الثقافية أو الشعبية، ولا من أسواقها الشعبية ومسارحها وصالاتها وحتى سوق بغائها... والإرهابي لم يترك حتى جامعتها الأميركية وساعتها الشهيرة.

لبنان كان كله جميلاً، وبات حقل يباس واسمنت... خلاص الجمال ربّما يكون في القصيدة واللغة، الجمال في ذاته، وليس في هذا الكون الذي يسكنه متوحشون أو جزء كبير منه متوحش يعتبر أن الحرب هي الأساس، والسلام استراحة بين حربين، بل قالوا بحرب دائمة من أجل سلام دائم، وقالوا بنهاية التاريخ وإذ بالنظرية تنتهي على أبواب كييف... القاتل لا يستحي، القناص يزهق الأرواح ويحرقها، فكيف بالجدران. الروسي فلاديمير بوتين، حين حدثوه عن "أطفال الشيشان، قال: "الحرب هي الحرب". آلة الحرب لا تفكر إلا في الخراب (نستحضر هنا عبارة أدونيس "جاء العصفُ الجميلُ ولم يأتِ الخرابُ الجميل")... الفاشيات الدينية والإيديولوجية أحرقت اللوحات الفنية والكتب. "طالبان" دمرت تماثيل بوذا رغم مناشدات العالم.

ليس المقاتل وحده مَن يفتك بالجمال. المستثمر العقاري في بيروت كان يأتي بجرافاته ورافعاته، ويزيل كل جمال، سواء قناطر البيوت وشرفاتها أو ثرياتها الداخلية أو أشجارها المعمرة أو زجاجها الملوّن وحتى نسيجها الاجتماعي والبنيوي... أحد السياسيين شارك بمليشياته في كل حروب الشوارع التي دمّرت بيروت، وشرّدت ناسها، واليوم نجده يتباكى على العصر الذهبي للمدينة. القاتل يبكي القتيل. أحد الكتّاب كان داعما للحرب باعتبارها ثورة لتحرير القدس، وأيضاً يتباكى على ذاكرة المدينة. الكاتب هنا يفقد ذاكرته ليمجد ذاكرة المدينة.

كلام صاحب "لن" عن الجمال، فيه شيء من الوعظ لا الحقيقة. بالتأكيد قال هتلر "أشكر القدر الذي سمح لي برؤية هذه المدينة العظيمة(باريس) التي لطالما سحرتني". وهو، بعد أسبوع من احتلالها بجيشه الألماني، فجر 23 يونيو/حزيران1940، زارها، ولم يقم باستعراض عسكري في شوارعها كما يفعل عادةً القادة المنتصرون أو الغزاة. إنما كانت زيارة سرية، أشبه بالحلم الذي راوده طويلاً. لم يتم تفجير باريس مع اقتراب الحلفاء، وهرب الألمان، واستسلم بعضهم، ولم يتم تفجير المدينة، ليُطرح السؤال: لماذا؟ تعددت الروايات التاريخية من دون تأكيد أي منها... 

(*) بمناسبة صدور الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر أنسي الحاج، دعا مهرجان بيروت للأفلام الفنّية إلى أمسية "قولوا هذا موعدي"... تقديم الشاعر عبده وازن، بالإشتراك مع رفعت طربية، جوليا قصار، علي مطر، ندى الحاج، رانيا الحاج، فرَد نصر، إخراج مسرحي: لينا أبيض.. وذلك يوم الإثنين 20 شباط في مسرح ليلى تركي، المكتبة الشرقية، الجامعة اليسوعية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها