الثلاثاء 2023/02/14

آخر تحديث: 12:41 (بيروت)

زلزال لشبونة: "أرسل عليهم حموّ غضبه.. جيش ملائكة أشرار"

الثلاثاء 2023/02/14
increase حجم الخط decrease
في خريف 1755، وقع زلزال كبير دَمَّر حوالي ثلثي مدينة لشبونة. حدث ذلك في صباح يوم سبت مشمس، في الأول من شهر تشرين الثاني، بحلول الساعة التاسعة وأربعين دقيقة، بينما كان الناس مجتمعين في الكنائس للصلاة احتفالاً بـ"عيد جميع القديسين". زلزلت المدينة بأربع هزات أحالت نصفها أنقاضاً، وقضت على أكثر من 15 ألف شخص.
 
هرع كثير من السكان فزعاً إلى رصيف الميناء بحثاً عن النجاة، وفوجئوا بموجة مدّ هبّت حتى بلغ ارتفاعها 15 قدماً. غمر هذا التسونامي الميناء وقلب المدينة، وبلغ نواحي نهر تاجة، وأغرق آلاف الأنفس. وفي المناطق التي لم يؤثر فيها هذا المد البحري، اندلعت النيران، واستمرت الحرائق أياماً. تجاوزت ارتدادات هذا الزلزال حدود البرتغال، وبلغت فنلندا وشمال افريقيا، وتسبّبت في دمار العديد من الدور والمباني. في الخلاصة، أودى زلزال لشبونة الكبير بحياة أكثر من 60 ألف شخص، وبدّد المقولة الحكمة القائلة بأن "هذا هو العالم الأفضل".

كان البرتغال في ذلك الزمن مملكة لها أطماع استعمارية واسعة، وكانت لشبونة واحدة من أغنى مدن أوروبا، كما أنها كانت مركزاً تجارياً دولياً. وأمام هول الكارثة التي حلّت بها، طلب الملك جوزيه الأول من وزرائه أن يشيروا عليه بما ينبغي صنعه، فكان ردّ الوزير الأول ماركيز دو بومبال: "علينا أن ندفن الموتى ونقدّم الغوث للأحياء". أطلق الملك يد وزيره، فأمر بإقامة الخيام والمعسكرات لإيواء من باتوا بغير مأوى، وعيّن الجند لحفظ الأمن، وأمر بشنق كل من يقوم بالنهب والسرقة في غمار الفوضى التي ضربت أطنابها. وتحت إدارته، نُصبت المشانق لدرء اللصوص، واستُخرجت مواد البناء من أنقاض المباني المهدمة، وجرى بناء حي "بياكسا" وفقاً لتخطيط هندسي جديد، اعتمد تقنية مستحدثة صُمّمت لتقاوم الزلازل والحرائق. نجح ماركيز دو بومبال في هذه المهمة الشاقة، ورسّخ قدمه في السلطة، وبدأ يعدّ العدّة لتحرير الحكم من سيطرة الكنيسة الكاثوليكية من جهة، وتحرير الاقتصاد من سيطرة الإمبراطورية البريطانية من جهة أخرى.

تردّد صدى زلزال لشبونة في كافة أنحاء أوروبا، كما يشهد الكم الهائل من الرسوم الطباعية التي تصوّر هذا الحدث. توثّق هذه الرسوم لكافة مراحل هذه الكارثة: تظهر المباني الرئيسية التي حولها الزلزال إلى ركام، ويظهر التسونامي الذي هبّ وأغرق المدينة، كما يظهر الناجون في الخيم المنصوبة، ويظهر اللصوص معلّقين على المشانق. في هذا السياق، تظهر الصور الأولى لإعادة الأعمار، وفي عدد منها، يظهر الملك جوزيه الأول وهو يشرف بنفسه على هذه المهمة. نراه واقفاً بين جمع من الرجال من جهة، رافعاً ذراعه اليمنى، مشيراً بيده إلى ورشة البناء، وتبدو خلفه السفن التي حطّت في ميناء لشبونة. في الطرف المقابل، يظهر جمع من البنّائين، وفي الخلفية، تظهر عمارة كبيرة مهدمة تجاورها عمارة صغيرة أعيد إعمارها.    

أشهر اللوحات الخاصة بهذا الزلزال، زيتية من توقيع فنان برتغالي من أصل ألماني درس وتمرّس في إيطاليا، يُدعى جوا غلاما ستروبرل. شهد الفنان هذه الكارثة التي حلّت بلشبونة، وجمع أحداثها تحت سماء واحدة في لوحته التي عمل على إنجازها طوال ثلاثة عقود، كما يُروى. في هذا العمل الذي يُعبّر عن الرؤيا الكاثوليكية التقليدية كما يبدو بشكل جلي، يظهر الكهنة مع الشعب في هذا اليوم الذي يتّخذ طابع الدينونة. الكل هنا يستغيث ويبتهل طلباً للرحمة، ويظهر الرسام نفسه في طرف اللوحة متقدّماً واحداً من الجموع. يظهر الخراب الذي حلّ بأبرز معالم المدينة في الخلفيّة، كما تظهر الحرائق المشتعلة، ويتراءى في البعيد البحر الذي امتد ليغمر الفارين من الزلزال.
 
في القسم الأعلى من الصورة، يحلّق عدد من الملائكة، شاهرين السيوف فوق رؤوس الناس، في ما يشبه الاستعادة التشكيلية لما جاء في سفر المزامير: "أرسل عليهم حموّ غضبه، سخطاً ورجزاً وضيقاً، جيش ملائكة أشرار" (78: 49). "ليكونوا مثل العصافة قدام الريح، وملاك الرب داحرهم. ليكن طريقهم ظلاماً وزلقاً، وملاك الرب طاردهم" (35: 5-6). تجسّد هذه الصورة، بشكل لا لبس فيه، هذه الرؤيا الدينية المكرّسة التي ترى في الزلزال تعبيراً عن الغضب الإلهي، وتأديباً للبشر الخطَأة. وهي الرؤيا التي سادت في هذه الفترة، وأثارت مفكري عصر التنوير الذين انتقدوها. 

نقع على زيتية أخرى تصوّر هذا الزلزال، تُنسب كذلك إلى هذا الرسام، وهي على شكل تقدمة من رجل يُدعى ليوناردو رودريغز، خرجت ابنته الصبية حية من الزلزال، بعدما بقيت مطمورة تحت الأنقاض طوال سبع ساعات، وقد تمّ هذا الخروج العجائبي بشفاعة مريم العذراء، "سيّدة نجمة الصبح"، كما يقول النص المدوّن في اللوحة. في القسم الأسفل من هذه الصورة، أمام الأبنية المتصدّعة، يظهر فريق مؤلف من ستة رجال يعملون على انتشال صبية فاقدة الوعي. وفي الطرف الأعلى، تقف العذراء بين السحاب وهي تحمل الطفل يسوع، وتبدو النجمة وهي تتلألأ فوق يدها اليمنى المرتفعة نحو الأعلى.

في زيتية كبيرة أنجزها الفنان الفرنسي لويس ميشال فان لووـ في 1776، يظهر باني لشبونة، ماركيز دو بومبال، جالساً في مكتبه، مشيراً بيده اليسرى باتجاه نهر تاجة الذي يحتل خلفيّة الصورة. تظهر السفن وهي تعبر هذا النهر باتجاه لشبونة، ويظهر عند طرف اليابسة دير جيرونيموس الذي شُيّد في منتصف القرن السادس عشر، وصُنّف ضمن لائحة التراث العالمي في 1983. أمام ماركيز دو بومبال، تحضر مجموعة من اللفائف تمثّل مشاريع الإعمار التي أنجزها كبار المهندسين تحت إشرافه، ومن ورائه، يحضر نصب رخامي يعلوه تمثال يمثّل الملك جوزيه الأول ممتطياً جواده. 

تحيط بهذا النصب ثلاث قامات نسائية تجسّد التجارة والصناعة والفنون، وهي القوى الثلاث التي قامت عليها الثورة الإصلاحية التي قادها دو بومبال أثناء توليه وزارة المملكة على مدى ربع قرن. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها