الجمعة 2023/02/10

آخر تحديث: 13:56 (بيروت)

السوري في الزلزال: أنا أتألَّم.. أنا موجود

الجمعة 2023/02/10
السوري في الزلزال: أنا أتألَّم.. أنا موجود
تسمع أصواتاً من حولك تكسر حدَّة الصمت والخوف: يا الله ماذا فعلنا؟
increase حجم الخط decrease
ثمّة حواسٌ مَُكِّرة أيقظتني عند الساعة 4.18 دقيقة، صباح الإثنين 6 شباط/ فبراير2023، وأنا أتأرجح على سرير النوم في اللاذقية، بينما قِطَعٌ من أثاث البيت تتطاير وتتراقص وتقع وتنكسر، وطفلتي مانيسا في حضني تتشبث بي بقوَّة، فلا تفلت مني، وهي تكزُّ على أسنانها غير قادرة على الصراخ. إنَّه الزلزال الذي جاء بقوَّة 7,8 على فترتين زمنيتين متتاليتين.

تذكرتُ ذاك الدرويش الذي كان يمر في ثيابٍ رثَّة أمام مقهى القصر بحلب، في أوائل ثمانينيات القرن الماضي وهو يصيح: "قامت"، ويقصد أنَّ القيامة قامت. قلتُ، وقد سَحَبَتْ زوجتي، مانيسا من حضني، كأنَّها تسحب روحي، واحتمت معها وابنتي الوسطى في مدخل البيت. قلت: إذن، قامت. وقمتُ من سريري، ونزلنا السلالم أنا وأفراد أسرتي، وقد اصطحبنا معنا جارنا نيرودا وزوجته وابنتيه، والأرض ما زالت تزلزلُ وتتزلزلْ، فيما المطر وأصوات الرياح، مع صوت الرعد والبرق، كعزف موسيقى جنائزي يزيد من خوفنا. لقد صرنا في الشارع، جموعٌ من أهالي الحيّْ- هكذا في العراء على طريق اللاذقية-كَسَب-تركيا الدولي.

بكاءٌ وعويل، توسلاتٌ إلى الله، تكبير. ورسائل تنهمر في وسائل التواصل الاجتماعي: مبان تنهار، في اللاذقية، في حلب، في إدلب، في حماة. وضحايا بشرية، لا بفعل القنابل والقذائف، بل بفعل الزلزال. ضحايا بالعشرات، ثمَّ بالمئات، ثمَّ بالآلاف بين قتلى وجرحى. وتسمع أصواتاً من حولك تكسر حدَّة الصمت والخوف: يا الله ماذا فعلنا؟ ألا يكفي ما فعله تُجَّار الحرب بنا؟

زلزال وحرب. آلاف، عشرات الآلاف من القتلى، وريحٌ تعوي، ومطرٌ قطراته تدقُّ رأسكَ، رأس أولادك، رأس جارك ورأس زوجته وابنتيه.. كأنَّنا على خشبة مسرح ننتظر غودو. لا تكن عبثياً، عليك أن تتعقَّل، وتخفِّف من العنف التراجيدي الذي تحتبسه في أعماقك، وأنتَ طريدُ تجَّار الحرب السورية، والآن طريد الزلزال والزلزلة. وتسأل: مَنْ أنا، وما أهميتي؟ ويسأل كل سوري بقي حيَّاً هذين السؤالَين.

أمشي، ومعي زوجتي وأولادي على طريق اللاذقية-كسب، وأصوات كلابٍ تنبح بشكل هستيري. الكلاب تتنبأ بالكوارث الطبيعية. على مَنْ تنبحُ الكلاب؟ على أساتذة الفساد الذين أوصلوا السوري إلى هذا الزلزال الذي فرَّخَ تُجَّاراً جُدد ولصوصاً جدد يسرقون المعونات الإنسانية، على قِلَّتها، من أمتعةٍ وأغذية وأدوية، ليبيعوها على أرصفة المُدن. ما هذه الغيلان التي تغُشُّنا وتسُمُّنا؟ من أين جاءت؟ كيف تتناسل؟ ولماذا نسكت؟ مَنْ ختَم أفواهنا بالشمع الأحمر؟

ها هو الزلزال، نواجهه، حتى هذه لحظة كتابة هذه السطور، الأرض تهتز. لكننا، للأسف، نواجهه بالخوف. لقد اعتدنا الخوف، فصرنا أمَّة مذعورة ابتليت بأمراضٍ لا دواء لها، وكأنَّه لا شفاء منها، ولا حتى بالزلزال. سنبقى نتألَّم. لقد صار السوري، حتى يتأكَّد من وجوده، يجب أن يكونَ متألِّماً: أنا أتألَّم، إذن أنا موجود. فلا يكفيه الموت بالبارود والرصاص. بل وبالزلازل. هل هو قَدَرُنا؟

تمرُّ سيارة أمامنا يصدحُ منها صوت المُقرئ مصطفى إسماعيل، وهو يُجوِّد آياتٍ من القرآن الكريم: "إذا زلزلت الأرضُ زلزالها..". من طبيعة الناس في مثل هذه الكوارث أن تحتمي بكتُبها السماوية، هذا غير مَن يحتمي ويستجير بالأنبياء والأولياء والصالحين. ترفعُ صوت المُقرئ، لتدفع عنها الخوف والبلاء. إذ أنَّ التجويد يضخّم ويفخّم الكلام الإلهي و"حمايته"، وينفخُ في الروحِ روحاً بعدما نالتها الزلازل. ورغم أنَّ السيارة المتقدّمة على مهل، ابتعدت منَّا، إلاَّ أنَّ صوت المُقرئ كان يمنحُ مَنْ يسمعُ آيات سورة الزلزلة –وهي سورة مليئة بالتراجيديا المرعبة- بعض الراحة. بل قد تورِّطه في "الشجاعة" لتحدي الزلزال، لأنَّ الصوت في هذه الحالة، مُجوِّداً القرآن الكريم، يُلغي التفكير لصالح السَّمَع.

مانيسا طفلتي، تسألني وهي ترتجفُ من البرد: بابا هل الزلزال شرِّير. هي تكره الأشرار، فعالمُهم عنيف، مليء بالشبق والقسوة، لا إحساس بالإثم أو الذنب. الأشرار عَدَميون. وأقول لها: الزلزال ساحرٌ، مبعوثُ الموت، مصَّاص دماء، قوَّة هائلة، هو الوجودُ يا ابنتي يختفي عند ظهوره، ويظهر عند اختفائه، ونحن غير قادرين على العودة إلى البيت، وغير قادرين أن نبقى في هذا العراء.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها