الطبقة العازلة على الرأس، وضعها الرفاق الذين باتوا مرتزقة، يعيشون على حساب الدولة السورية، بأمر من النظام، كي تحميهم من ضمير قد يستيقظ فيؤنب صاحبه، على ازدواجية الموقف الأخلاقي. لكنها تمددت على حالات كثيرة طيلة عقود ما قبل الثورة السورية، فراكمت الذاكرة لائحة طويلة لشخصيات ومؤسسات وجهات سياسية عربية ودولية، نافقت نظام الأسد، وعاشت على جعالاته، وقد استمر هؤلاء في علاقات صامتة مع الأسد الابن بصمت... حتى جاءت ثورة السوريين، فكانت، كما يقول أصحابها، "كاشفة"، تجعل أصحاب المواقف يظهرونها، في وقت يمتاز بفرزه للجميع، بين أن يكون المرء مع حقوق السوريين في الحرية والكرامة والعدالة، وبين أن يختار صف القتَلة فيصفق لهم على ما ارتكبوه ومازالوا من جرائم، تحت الشعارات الأيديولوجية الطنانة الرنانة.
يمكن أن نعتبر هؤلاء ضحايا جشعهم وترزقهم، لكن ما الذي يمكن قوله في حالة خاصة وغريبة يمثلها سفير جنوب أفريقيا في سوريا ولبنان، الموسيقي والكاتب والسياسي باري غيلدر، المناضل من أصل يهودي، الذي ترك كل غنائم نظام بريتوريا البائد، ومضى مع المؤتمر الوطني الأفريقي وعمل لصالحه في حقل الاستخبارات؟!
ربما منعت الصفة الدبلوماسية السيد غيلدر من أن يعلن موقفاً سياسياً شخصياً تجاه ما حدث في سوريا، لكنه على أرض الواقع جاء إلى المكان الذي جعله النظام يفيض بالجرائم، ليمثل دولته فيه، وليغض الطرف عما جرى ويجري.
(غيلدر مع وزيرة الثقافة السورية)
صحيح أنه لم يصرح بتأييد بشار الأسد، كما فعل زميله السفير السابق شون بينفيلدت حينما تماهى مع إعلام النظام، إذ ادعى بينفيلدت "أن ما تعرضت له سورية من تدمير على أيدي الإرهابيين كان ظلماً لا يمكن تبريره، لافتاً إلى أنّ "صمود الشعب السوري وانتصاره على الإرهاب جاء ليؤكد ضرورة استمرار المواجهة ضد التطرف والجشع من قبل بعض الذين يعتقدون أن ثروات الأرض ملك لهم". لكن ما الذي يجعل ضحايا الإجرام الأسدي يتأكدون من أن غيلد لن ينساق بدوره إلى هذه العتبة من الانحياز اللا-أخلاقي؟ لاسيما أن موقف بلاده تجاه النظام لم يتغير، رغم كل ما فعله ضد الشعب السوري، إذ ما زال حكام جنوب أفريقيا يشعرون بالامتنان للنظام على موقفه ويصرحون على غير هدي بأنه "كان دائماً مصدر دعم لقضايا العدالة الانسانية وسجل التاريخ وقوفه في وجه نظام الفصل العنصري وذلك من أجل تحقيق المساواة والحصول على الحرية"!
في واقع الأمر، المعطيات المتوافرة حالياً لا تفيد بأن السيد غيلدر يختلف في موقفه عن سلفه، فالصور التي نشرتها وكالة "سانا"، وكذلك وزارة الثقافة السورية، لحفلة توقيع الترجمة العربية من كتابه "أغانٍ وأسرار" في مكتبة الأسد، توضح أن الرجل سعيد بما حصل عليه من احتفاء وتقدير من الهيئة العامة للكتاب التي تكفلت بالإصدار، ما تكرّس خلال التوقيع في حضور وزيرة الثقافة لبانة مشوح شخصياً، بالإضافة إلى عدد من موظفي الوزارة، وبعض أعضاء السلك الدبلوماسي العاملين في دمشق، ممن وقفوا أمامه ينتظرون دورهم في الحصول على نسخهم الممهورة بتوقيعه.
تأجلت حفلة التوقيع هذه، أياماً، بسبب إلغاء الوزارة كل الفعاليات الاحتفالية، تضامناً مع الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة عموماً، وغزة على وجه الخصوص. وكانت هذه القضية فرصة لغيلدر أن يعلن موقفاً يناصر الضحايا الفلسطينيين وقضيتهم العادلة، وذلك في جلسة جمعته في مبنى اتحاد الكتّاب العرب، نهاية الشهر الماضي، مع سفير تونس في دمشق الدكتور محمد المهذبي، وسفير الجزائر الدكتور كمال بوشامة، حيث أشار وبحسب صحافة النظام إلى "التشابه والالتقاء بين نضال الشعب الفلسطيني ونضال الشعب في جنوب إفريقيا، حيث عانى الشعبان من الاحتلال وممارسات نظام الفصل العنصري وتشابه نضالهما المشترك ومقاومتهما لتلك الممارسات ودخولهما مراحل متشابهة في الكفاح المسلح والمقاومة بكل أشكالها ضد نظام الفصل العنصري والنضال من أجل استعادة الحقوق المشروعة للشعبين".
لكن الموقف العادل تجاه القضية الفلسطينية يجب ألا يكون موسمياً، وأن يتسم بالنزاهة، فلا يتجاهل القضايا الملاصقة لها، والمتشابكة معها، وأن يرى كيف تحول الفلسطينيون إلى ضحايا لإسرائيل وللنظام السوري في الوقت ذاته. ولعل المَشاهد مازالت حاضرة على الأرض، وفي الإنترنت، وتظهر الدمار الذي لحق بمخيم اليرموك-عاصمة الشتات الفلسطيني، وتوضح كيف أن التشابه يصبح تطابقاً، لا يمكن لعين العاقل أن تتجاهله.
تاريخ الرجل، لا سيما آراؤه المعلنة، ترفع سقف المطالبات الأخلاقية منه نحو الأعلى. فقد كان فاعلاً في جبهة أومخونتو سيزوي (MK) (رمح الأمة) أي الجناح المسلح للمؤتمر الوطني الأفريقي، والتي كانت قد أعلنت أن "الأمة تأتيها لحظة لا تبقى فيها إلا أمام خيارَين - الاستسلام أو القتال. لقد حان الوقت لجنوب أفريقيا، لن نستسلم وليس لدينا خيار سوى الرد بكل وسائلنا في دفاع عن شعبنا ومستقبلنا وحريتنا". وبحسب موقع تاريخ جنوب أفريقيا، فإن غيلدر واحد من الجنوب إفريقيين الذين اختاروا "الرد بكل وسائل".
أما موقع jewish report (التقرير اليهودي) في جنوب أفريقيا، فقد أحاط سيرة الرجل بهالة ملفتة وكتب في سياق الحديث عن آخر أعماله الأدبية: "رحلة باري غيلدر من ناشط ضد نظام الفصل العنصري إلى سفير جنوب أفريقيا في سوريا ولبنان، تمثل قصة استثنائية عن الصمود والالتزام. شكلت تجاربه وأفكاره وجهات نظره حيال السياسة والتاريخ وروح الإنسان، أسساً رئيسية لحياته".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها