"إنّ كلّ شيء عبارة عن استعارة"
(هاروكي موراكامي)
قصّة (نوفيلا) "ثورة البهائم" للروائي الروسي المنسيّ نيكولاي كوستوماروف التي كُتبت كما يرجّح، ما بين العامين 1879 و1888، ونشرتْ للمرة الأولى العام 1917 في مجلة "نيفا" الواسعة الانتشار، هي "بهائمية بالمطلق"، ووفية بالمطلق للرمز والمجاز، تتوسّل الكلام بلسان الحيوان، وحضورها في الكتابات النقدية مرتبط على الدوام برواية "مزرعة الحيوان" للروائي البريطاني الأشهر جورج أورويل. وكثر يسألون ما إذا كان الأخير استقاها أو حتى سرقها من كوستوماروف حيث يأتي عنوان مقال الروائي الأميركي جون ريد (وهو غير الصحافي والشاعر الاميركي جون ريد مؤلف كتاب "عشرة أيام عزة العالم") المنشور في مجلة "هاربر" في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2015 حاملاً لهذا السؤال: "تاريخ محرّف، هل استمد جورج أورويل مزرعة حيواناته من عمل لكاتب روسي في القرن التاسع عشر"...
ويضيء ريد على رواية البولندي فلاديسلاف ريمونت (1867 -1925) "الانتفاضة" التي يورد فيها ريمونت أنه استلهمها من "ثورة البهايم" ونشرت ترجمتها الانكليزية العام 1924، السنة التي فاز فيها ريمونت بجائزة نوبل للآداب. على الرغم من أن القصص المذكورة لها المناخ نفسه، إلا أن المحركين الأصليين بينهم مختلفون. في رواية كوستوماروف، المحرّك هو الثور، عنيد وقوي للغاية، ويجب إبقاؤه مقيدًا في جميع الأوقات وضربه حتى يخضع إذا لزم الأمر؛ في قصة النوبلي ريمونت، تصوّر ثورة يقودها الكلب ريكس، وسرعان ما تفشل فشلاً ذريعاً، وتنتهي إلى استجداء غوريلا أن تتولى القيادة؛ في رواية أورويل المحرّك هو الخنزير العجوز، فيلسوف التغيير.

والفرق بين "مزرعة الحيوان" و"ثورة البهايم"، أن الأولى نُشرت للمرة الأولى في العام 1945، وقال أورويل نفسه، إن الرواية هي نقد للنظام الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، وتحديداً الستالينية، الحيوانات فيها تختبىء خلفها شخصيات سياسية تاريخية معروفة. أما رواية كوستوماروف التي يعتبر صاحبها، من أوائل من كتبوا أدب الـ"ديستوبيا"، فلا تسعى الى تصفية حسابات سياسية أو عقائدية مع أحد، ولا هي مشغولة بإحالات أو إسقاطات من النوع المباشر، وهي منفلتة من أية محدّدات تاريخية أو واقعية، ومنفتحة على شتى التأويلات والاسقاطات، لا يمكن حصرها بحقبة زمنية، إنها قصة تتحدّث عن مصير ثورة تقوم بها البهائم. تثور حيوانات كوستوماروف المتمرّدة من دوافع مشروعة في رفع ظلم الانسان عنها، وجاء على لسان الثور، مُطلِق شرارة الثورة: "لقد قام الطاغية المتوحش، مستفيداً من تفوّق عقله على عقلنا، باستعبادنا، نحن ضعفاء العقول، وأوصلنا إلى الدرجة التي فقدنا فيها كرامة الكائنات الحيّة فصرنا مثل أدوات العمل غير العاقلة إرضاء لنزواته. الناس يحلبون أمهاتنا وزوجاتنا، ويحرمون صغارنا العجول من الحليب، وما هو الشيء الذي لم يصنعوه من حليب أبقارنا! الحليب هو ملكنا، وليس ملكاً للإنسان! ليحلب هؤلاء الناس زوجاتهم بدلاً من حلب أبقارنا"...
لكن الثورة البهائمية في الواقع لم تتمكّن من السيطرة على المزرعة. تبين أن الشخص المسيطر هو عامل مزرعة عجوز موثوق فيه، يُدعى أوميلكو، ويمتلك موهبة فهم حديث الحيوانات. ويتفوق بسرعة على قادة التمرّد - الثور القوي والفحل الجميل - من خلال الاستسلام لمطالبهم المتحمّسة ومنحهم وحريتهم. عندما يأتي الشتاء وينفد الطعام تتم معاقبة القادة: يتم ذبح الثور وإرساله إلى المسلخ، وإخصاء الحصان. يُطلب من أوميلكو اتخاذ كل الاحتياطات اللازمة لمنع حدوث الانتفاضة مرة أخرى، ويعود العالم إلى الروتين القديم. (نتذكر ناكاتا؛ في "كافكا على الشاطئ" لموراكامي، رجل عجوز يمتلك تفكيرًا محدودًا بعض الشيء بسبب تعرضه لحادثِ طفولة غامض حرمه من القدرة على القراءة والكتابة ومنحه بدلاً من ذلك هِبة التحدث إلى القطط!).

"ثورة البهائم" قصّة ممتعة، لكاتب ليست لديه قصص أخرى! ومنجزه الأدبي يقتصر على مجموعتين شعريتين نشرهما باسم مستعار هو يريميا هالكا: "أغاني أوكرانيا" (1839) و"الغصن"(1840)، موظِّفاً فولكلور الأغاني الروسي في قصائده، وهو الذي عرف بتخصصه بالفولكلور السلافي الشرقي، وبوصفه أول روسي استخدم الأغنية والاثنوغرافيا في دراسة التاريخ، وله نظريته الخاصة بالعرق الروسي في التاريخ الروسي. وكان واحداً من المثقفين الروس الذين أسّسوا الحركة الثورية "نارودنيكي" المتأثرة بماركس في ستينيات القرن التاسع عشر، والتي جاءت نتيجة الظروف الزراعية المتردّية التي تلت إلغاء القيصر الكسندر الثاني العبودية. اعتُقل جراء انتمائه للحركة سالفة الذكر، وأُجبر في العام 1862 على التخلّي عن كرسي التاريخ في جامعة سانت بطرسبورغ لـ"تعاطفة مع الحركة الثورية لليبراليين والتقدميين والاشتراكيين".
(*) صدرت الترجمة العربية لدى محترف أوكسجين، بتوقيع ضيف الله مراد، ورسوم محمود ديوب، وتقديم زياد عبدالله.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها