تروي مسرحية "العادلون" للفرنسي ألبير كامو، حكاية مجموعة ثورية متفقة على التغيير والخلاص من أجل تحقيق العدل ونيل الحرية حتى لو كلفهم ذلك حياتهم، مثلما هم متفقون أيضاً على خلاص وحرية الجميع وليس أنفسهم فقط. لذا فإنهم يدبرون مقتل الدوق الكبير (او الزعيم في النسخة اللبنانية) من أجل خلاص الملايين الرازحين تحت وطأة الظلم والاستعباد. تخطط المجموعة وتحدّد المكان والزمان والكيفية التي سيجري فيها التنفيذ، وعندما تحين تلك اللحظة وتمر السيارة التي تقلّ الزعيم، يتراجع الموكل بتنفيذ العملية عن مهمته، لأنه وجد طفلَين بصحبة الزعيم، إذ أصبحت مهمته الآن منافية لمبادئه وأفكاره.
بين "نعم" و"لا"
تحيلنا مسرحية "العادلون" الى مسارين مختلفين، على الرغم من انتمائهما لنقطه واحدة. يتمثل الأول في دور شخصية عضو المجموعة الارهابية، شخص خارج لتوه من السجن لا يحمل في داخله سوى الألم والمهانة والمظلومية، ولا يعرف سوى الحقد بسبب معاناته الأليمة هناك، ما يسِمه بالشدة والتعصب، فلا يرى أمامه الا تنفيذ أهدافه مهما كانت طرائقها ووسائلها، وعلى رأس تلك الأهداف قتل الزعيم... أما الثاني فيتمثل في الشاعر، كما يدعوه رفاقه، وهو ثوري، لكن من طراز مختلف، متمسك بمبادئه في الثورة حتى ولو كلفته تلك المبادئ حياته. الشخصيتان مختلفتان على الرغم من انتمائهما للأفكار ذاتها. ويؤدي بنا هذا الاختلاف الى الوقوف على أول مفاهيم التمرّد، وهو التوتر القائم بين "نعم" و"لا"، والذي يذكره كامو في أعماله، بمعنى الـ"نعم" العميمة لأن الأمور تجاوزت الحد ولم يعد باستطاعة الفرد الاحتمال، لذا يرفض كل شيء. والـ"لا" التي تعني التمسّك بالرفض لإنقاذ قيمة هي أغلى من كل شيء، ومن أجلها قام التمرّد وقامت الثورة أصلاً. وفي "العادلون" نجد الـ"لا" متمثلة في الشاب المتطرف الفوضوي المُعارض، ونجد الـ"نعم" في الشاعر الحزبي المندفع لإنقاذ قيَمِه أولاً.
النسخة اللبنانية
بالعودة الى "العادلون" التي عرضت في بيروت بعد جولات في المناطق اللبنانية، فإنها تنطلق من النص ذاتها وأسئلته. مساحة متقشفة، فيها الباب والشباك والضوء الذي يدخل منه، والنص الملبنن يحضر كأنه يروي أحوالنا. تقسم المسرحية إلى خمسة فصول، وتقترب الحوارات من محلية لبنانية مع بعض الايحاءات، كاستخدام "الزعيم" بدلاً من "الدوق"، وأصوات السيارات بدلاً من زمن العربات الذي كتبت فيه المسرحية الأصلية، وصوت "الرابِر" الذي عرّف بالطفار في الحراك الشعبي اللبناني العام 2019، عدا عن حماسة الممثلين وتوتر أدائهم المتماسك كجيل لبناني يعيش حالة التمرّد والسؤال وسط هذه الانهيارات كلها.
تمسك كارولين حاتم، بتيمة عرض كامو، وبسؤاله المنشطر بين جدليتي "لا" و"نعم"، لتُلبنِن هذا النص التاريخي الذي كتب العام 1949 وكأنه كتب اليوم. الخليّة الثورية التي تخطّط لاغتيال رجل السياسة الفاسد، هذه هي الفكرة النواة التي اشتغلَ عليها كامو ليصور العدل من وجهة نظر القلوب الرومانسية المتحمّسة والغاضبة، وليصطدم هذا العدل بوجه الطفولة لحظة تنفيذ الحكم العادل. العرض الذي استمر تسعين دقيقة، حمله الممثلون على كاهلهم وتوترهم الدرامي الذي نجح بتصاعده في الإمساك بالجمهور طيلة زمن العرض.
في نص كامو، تنكسر الأحلام وينتفي العدل. تقول إحدى الشخصيات: "نحن في شتاء أبدى، إننا لسنا من هذا العالم، إننا العادلون، حرارته لم تُخلق لنا". فتجيبها شخصية ثانية: "نعم، هذا هو قدرنا، الحب المستحيل".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها