ممانعجية وديكتاتوريات
الحساسية الغربية التي أدت إلى المقاطعة ليست ذات طبيعة ثقافية، بل هي سياسية، ترى أن الثقافة تُستغل من قبل روسيا لتكون ممراً لأغراض أخرى. وبينما كان النادبون على الثقافة الروسية المحاصرة، يبكون دوستويفسكي وتشيخوف وتورغنييف وتولستوي وغوركي وتشايكوفسكي وأيزنشتين وستانسلافسكي، كانت الإدارة الثقافية الأمنية البوتينية تُهدد المثقفين المعترضين على الحرب بالسجن... ما أدى إلى فرار كثر منهم إلى أوروبا وتركيا، وفي الوقت نفسه عملت موسكو على خطة مستدامة تقوم من خلالها بنشر توجهات السياسة الروسية.
وفي هذا السياق، أتى منتدى سانت بطرسبرغ الثقافي الدولي (منتدى الثقافات المتحدة) في نسخته التاسعة التي انتهت أعمالها قبل يومين، ليتبين فعلياً بأن الدور الحيادي المزعوم للثقافة لا يعدو كونه أكذوبة أخرى، تضيفها منظومة الديكتاتوريات المتحالفة إلى سجلها الإجرامي الأسود في تاريخ الشعوب.
فالتجمع الذي شاركت فيه أربعون دولة، بحسب الإعلام الروسي، كان من بينها لبنان وسوريا والأردن وليبيا وإيران وكوريا الشمالية وجنوب إفريقيا وجمهورية إفريقيا الوسطى وميانمار، توصل في نهايته إلى بيان يقوم على مفارقة بين واقع بعض الدول المشاركة، وبين ما تدعيه في مثل هذه المحافل، إذ لا يمكن لأحد أن يقرأ السطر الأول من البيان، من دون أن يسخر من طبيعته ومؤداه. فمفهوم الثقافة هنا "لا يشمل الفن والأدب فحسب، بل يشمل أيضاً أساليب الحياة وحقوق الإنسان الأساسية ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات". كما أن الموقعين يشددون (يجب أن يضع القارئ علامات شتى تحت فعل التشديد) "على ضرورة الاعتراف بالثقافة باعتبارها منفعة عامة عالمية، ونؤكد أن الثقافة هي أهم عامل في التنمية الوطنية، وتشكل إرادة الشعوب في الحرية والاستقلال والاختيار السيادي لنموذج التنمية".
المنتدى الذي يعقب نسخة متخصصة في الشؤون الاقتصادية أيضاً، تعقد بشكل دوري، لن يمر من دون أن يستغله بوتين الذي حضر إحدى جلساته ملقياً خطاباً. لكن أهم ما نقلته وسائل الإعلام الروسية عن فحواه، لم يقترب مطلقاً من الثقافة، فقد تحدّث عن تجمع دول البريكس، نافياً أن يكون له طابع عسكري، وفي جانب قريب تحدث عن تطوّر العلاقات الروسية الصينية.
أما وزيرة الثقافة الروسية، أولغا لوبيموفا، فقد روجت لاستعداد روسيا لتبادل الخبرات وتقديم الدعم، لتحقيق "فرص متساوية للتفاعل مع ثقافات الدول الأجنبية". ولكن هذا كله ظهر على أنه واجهة لغاية أخرى، هي الالتفاف على المقاطعة الغربية، وفي سبيل ذلك، يأتي الدعم الذي تشير له، ويترجم على شكل منَح دراسية في جامعات روسية، تخصص لطلاب قادمين من الدول المشاركة. وكذلك عبر اتفاقيات بروتوكولية، كمذكرة التفاهم للتعاون التي وقعتها وزيرة ثقافة النظام السوري لبانة مشوح، بين مكتبة الأسد الوطنية، ومكتبة مارغريتا رودومينو في عموم دولة روسيا للأدب الأجنبي.
فعلياً لا يمكن الاعتداد بما قد ينتج عن هذا التجمع، خصوصاً أن اللقاءات التي جرت فيه كانت وما زالت تجري خارجه. فممثلو الدول المعزولة عن العالم بسبب سياسات أنظمتها، كانوا ومنذ زمن طويل يلتقون، ويدّعون أنّ ثمّة إمكانية لأن يشكلوا مع بعضهم البعض عالَماً مناقضاً لذاك القائم في الغرب وظواهره الفنية والثقافية، كالجوائز والمهرجانات المسرحية والسينمائية المعروفة. وتحت هذا العنوان العريض، وبهدف "تعزيز تنوع الثقافات في عالم متعدّد الأقطاب"، تدعو الوزيرة الروسية زملاءها لإطلاق مهرجان سينمائي أوراسي مستقل ومفتوح، إلى جانب مسابقة موسيقية تحت عنوان Intervision.
لكن ما عجزت في وقت السِّلم، تجارب الدول المعارضة تاريخياً لسياسات الدول الغربية، لن تستطيع بالتأكيد أن تنجزه في أوقات الحرب والمقاطعة واستباحة الشعوب وقتل أفرادها وجماعاتها عبر القمع والإرهاب والقصف بطيران الجيش الروسي. فما جرى ويجري في سوريا، أنموذج لمعنى الثقافة وفق مذهب الديكتاتوريات.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها