عطفاً على المقال الأول عن كتابه "لبنان البدايات"، يروي المعمار اللبناني جاد تابت، أنّ إنشاء طريق الشام العام 1862 وخط السكّة الحديد الذي يربط بيروت بدمشق شكّلا نقلة نوعية بدّلت وجه منطقة الشام، إذ كرّست توغل الرساميل الأوروبية وسيطرتها على الطرق التجارية وعلى العلاقات الإقتصادية مع جبل لبنان والداخل السوري.
وكانت بوادر هذا التحوّل قد ظهرت أوائل القرن التاسع عشر، كما أوضح المؤرخ الفرنسي دومينيك شوفالييه في كتابه "مجتمع جبل لبنان في عصر الثورة الصناعية في أوروبا"(منشورات النهار)، حيث فرض التوغل الأوروبي تعديلات جذرية في اقتصاد الجبل، تجلّت في استبدال الزراعات التقليدية من قمح وحبوب بزرع شجرات التوت وتربية دود القزّ وانشاء معامل الحرير لحلّ الشرانق وغزل الحرير في عدد من بلدات جبل لبنان. هكذا تحوّل اقتصاد الجبل إلى اقتصاد أحادي متخصّص في انتاج الحرير وتصديره، تميّز بتبعية للرساميل الأجنبية، والفرنسية منها بشكل خاص.
وتجلّت هذه التبعية من جهة، من خلال الاتكال على بذور القزّ التي كانت تأتي أساساً من فرنسا. وسريعاً ما تزايد عدد معامل الحرير في أنحاء المتصرفية كافة، خصوصاً في بلدات المتن والشوف، حيث قدر عددها بحوالي 180 كرخانة سنة 1912.
فتاة لبنانية تعمل في معمل لغزل الحرير، بلدة الذوق (*)
وتطورت صناعة الحرير، وانتشرت الكرخانات في البلدات المحيطة ببحمدون، فكان رجلا الاعمال الفرنسيان، كوفا وفيغون، أول من أقام معملاً لحلّ الشرانق في بلدة "القرية" الواقعة بين بحمدون وحمانا سنة 1810، وكذلك أقام الأخوان بورتاليس، الآتيان من مدينة مرسيليا الفرنسية كرخانة كبرى في بلدة بتاتر سنة 1841، فأتيا بعاملات من بلدة ليون الفرنسية لتدريب الفتيات اللبنانيات على تقنيات غزل الحرير. لكن أكبر مجمع لصناعة الحرير في جبل لبنان، أقيم في السنوات الأول للقرن العشرين، عندما اشترتْ شركة "الأرملة غيران وأولادها" الكرخانة التي كانت أنشئت سابقاً في بلدة القرية، وأضافت مباني جديدة إليها وزودتها بأحدث الآلات والمعدات التقنية. وكان أصحاب المجمّع الجديد يبحثون عمن يعتني بهذه المعدات، كما كان مجمع الحرير في بلدة القرية يقع على رأس تلة تشرف على وادي لامارتين وعلى مقربة من عين توفر المياة الضرورية لحلّ الشرانق. كانت عائلة غيران برجوازية معروفة، تمارس تجارة الحرير منذ القرن السادس عشر. وفي ظل تزايد الطلب على الحرير من قبل البلاطات الملكية الأوروبية، تأسست شركة الأرملة غيران وأولادها سنة 1716، وعلى يد أرملة المدعو دومينيك غيران، تاجر الحرير المعروف واحد أعيان مدينة ليون.
(معمل كفرمتى - تصوير ليلى خالد)
ويختلف علماء اللغة واللسانيات حول أصل كلمة كرخانة. فبينما يؤكد المعلم بطرس البستاني في قاموس "محيط المحيط" أنها من أصل فارسي ومؤلفة من كلمتين: "كر" أي العمل أو الصناعة، وخانة أي المكان أو الموضوع، يقول آخرون أنها من أصل تركي، ومعناها الحرفي المحل الأسود أو السوق الأسود. وكانت هذه الكلمة تستعمل في الولايات العثمانية كافة ومنها مصر، للدلالة على بيوت الدعارة، وتحولت بعد ذلك لتعني معامل الحرير، ويقول جاد تابت ربما لأنها كانت تشغل في الأساس الأيدي العاملة النسائية في مجتمع محافظ لم يكن يتقبّل بسهولة خروج النساء إلى سوق العمل.
وثمة لغز متشعب يتعلّق بالحرير والنساء العاملات فيه... في كتابه "إن كان بدك تعشق/ كتابات في الثقافة الشعبية"(منشورات المتوسط)، يتتبّع الباحث فواز طرابلسي صناعة الحرير في لبنان والاقتصاد السياسي للمرأة اللبنانية، حيث يتسلل إلى مكامن هذه الصناعة، وإحالاتها الثقافية، إذ يرتبط الفعل الاقتصادي بترميز جسد المرأة، الذي يتحول عبر الزمن من منتج إلى مستهلك. ويشير طرابلسي إلى أنه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لم تكن نساء جبل لبنان يكتفين بإنتاج الأولاد وحضنهم، فكانت أجسادهن "حاضنات لتفقيس دود القز، تتدبّر الفقيرات منه لشراء غرامات قليلة من بزر (بويضات) دود القز وتعلّقها في أكياس صغيرة من الشاش حول أعناقهنّ. وبعد أيام يفقس البزر في دفء النهود"... مع ما يحمل هذا المشهد من بعد شهواني. ويروي طرابلسي، في مجال آخر، تفاصيل عمليات إنتاج الحرير، ويختصر أجواءها المحلية المؤلمة وتلك الشراكة الكاذبة بين الفلاح وصاحب الأرض، بكلمات، منها: ضرائب. بلص. سخرة. وفوقها جميعاً الاحتقارات. وعلى رأسها اضطرار الفلاح الفقير عند زواجه الى تقديم هدية للشيخ مقابل تخلي الشيخ عن "حق المفاخذة"، أي حقه في الليلة الأولى مع العروس. ويتصل الحرير بملمح ثقافي آخر لا يبتعد عن نموذج السلطة والطبقية، حيث يبقى الحرير محصوراً في نساء الطبقة الغنية، إذ تحرم النساء العاملات من ارتدائه...
وتكشف سردية جاد تابت جشع الرأسمالية في طريقة بناء معامل الحرير في جبل لبنان، سواء من خلال الاستيلاء على الأراضي، أو اعتمادها على اليد العاملة من نساء وفلاحين بشروط قاسية، إذ كان نهار العمل يمتد من شروق الشمس الى غروبها مع انعدام الشروط الصحية. وتكشف الوثائق المحفوظة في منطقة الرون الفرنسية، عن العقلية المشبعة بالعنصرية لدى أصحاب شركة الأرملة غيران وأولادها، من خلال جَلد العمال بالسوط. ومن أجل الحصول على يد عاملة من دون تكلفة وسهلة التعامل، بادرت شركة الأرملة غيران سنة 1908 الى انشاء دار للأيتام تحت اشراف راهبات المحبة، فكان الفلاحون يرسلون بناتهم إلى الميتم ليعملن بأجور زهيدة. وكانت الراهبات يشرفن على عمل الأطفال في الكرخانة بالتنسيق مع الإدارة، ما جعل الأصوات اليسارية ترتفع في فرنسا لتندّد بوضع الدين في خدمة رأس المال.
وطن من حرير
ثمة جانب آخر للحرير تحاول أن تبيّنه الباحثة فادية علي اسماعيل، في كتابها "وطن من حرير/ دور اقتصاد الحرير في العصر الحديث في تشكيل هوية لبنان المعاصر"(المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، فتشير إلى أن ازدهار قطاع الحرير في الجبل، وتحديثه عبر دخول معامل الحلّ اليه، والتخلي عن النمط التقليدي في إنتاجه، وارتباطه بالسوق الفرنسية، أدى إلى نشوء طبقة اجتماعية – اقتصادية جديدة، غالبيتها مسيحية، ستنافس طبقة المقاطعجية القديمة، وغالبيتها من الدروز، إلى أن تغلبها في نهاية المطاف. وتألفت هذه الطبقة الجديدة من أصحاب المعامل والتجار والوكلاء والسماسرة والمرابين والمصرفيين المتعاطين في شؤون الحرير والمرتبطين اقتصادياً بالمصالح الفرنسية في المنطقة. تسرّب التغيير بداية الى مجالة ملكية الأرض. فقد بدأت سلطة المقاطعجية التقليدية تفقد نفوذها منذ أيام بشير الثاني. استمر الوضع على هذا النحو في فترة التوتر المسيحي الدرزي بين العامين 1840 و1860، مروراً بانتفاضة الفلاحين في كسروان في العام 1858، وصولاً إلى نطام المتصرفية الذي فرض واقعاً جديداً في الجبل لبنان.
كانت هذه التحولات تتغذى على تزايد الطلب الفرنسي على الحرير، وعرفت بيروت نمواً مدهشاً، استفادت من مسارات التحديث والتغلغل الواسع لرأس المال الأوروبي. وساهم الحرير في تكريس عادات وتقاليد كثيرة توراثتها الأجيال، انعكست في اللغة والأمثال الشعبيّة وأسماء الأقمشة والعائلات التي امتهنت العمل بالحرير (قزّي، حلّال، فتّال، مكوكجي، ربّاط، مشّاقة ... إلخ)، وتصل فادية اسماعيل إلى أن انتاج الحرير كانت له الحصة الأوفر بالفعل في صناعة هوية لبنان وقولبتها على المستويين الاقتصادي والسياسي معاً، فالحرير في القرن التاسع عشر يشبه النفط في القرن العشرين...
لكن الاقتصاد اللبناني، بحسب جاد تابت، كان شهد تحولات أساسية بعد إصابة انتاج الحرير بشلل تام خلال الحرب العالمية الأولى، نظراً لتوقف تصدير المنتجات إلى الأسواق الفرنسية التي كانت تشكّل المنفذ الرئيس للحرير اللبناني. وبالرغم من أن هذا القطاع قد استعاد جزءاً من عافيته بعد انتهاء الحرب، إلا أن الشركات الفرنسية الكبرى التي كانت تحتكر معظم الإنتاج، لم تدخل طرق تصنيع حديثة، فأخذ الحرير اللبناني يعاني مُضاربة الحرير الصيني والياباني الذي ينقل الى أوروبا بكلفة متدنية عبر قناة السويس، في الوقت نفسه بدأ الحرير الصناعي يغزو الأسواق العالمية بعد ابتكار طرق حديثة لتصنيع "رايون الفسكوز" من لب الخشب، فأصبح بالامكان إنتاج خيوط ذات لمعان أكبر بكلفة متدنية.
نهاية
وبعد الكساد الكبير الذي أصاب الاقتصاد العالمي في ثلاثينات القرن الماضي، انخفضت أسعار الحرير كثيراً، ما أدى إلى افلاس معظم المؤسسات التي كانت تعمل في لبنان، وانهار اقتصاد الجبل تاركاً عشرات الآلاف من المزارعين الصغار يتحملون أعباء الديون ويتركون أرزاقهم للهجرة الى المدينة. وأعلنت شركة "الأرملة غيران وأولادها"، الإفلاس، سنة 1932، وأقفلت مجمع "القرية" وسرّحت جميع الموظفين. في تلك الأيام، عمّت البطالة والفقر في البلاد، غير أن الجدير بالتنبه إليه، بحسب فواز طرابلسي، هو فعل التحوّل الذي انخرطت فيه طبقة رجال الأعمال الذين عدلوا استراتيجيتهم، فبدأوا باستيراد البضائع الغربية، في حين تحولت أجساد النساء من الإنتاج إلى التجارة.
والآن، لم يبق من الحرير اللبناني الجبلي إلا الطلل، وما زال الكثير من ركام كرخاناته في مناطق متفرقةمن جبل لبنان، وباتت أمكنتها تغوي لإنشاء متاحف عابرة أو خشبات مسرح، عدا عن تحوّل الحرير وزمانه مادة للأبحاث والدراسات والحكايات والنصوص السردية والمسرحيات، سواء "موسم العز" للرحابنة وصباح، و"حرير وحديد" لفواز طرابلسي و"الفراشة الزرقاء" لربيع جابر التي تختزل تاريخ لبنان الاجتماعي في شكل أو بآخر.
____________
(*) مصدر الصورة:
Images of women : the portrayal of women in photography of the Middle East, 1860-1950
by Graham-Brown, Sarah.
Publication date 1988.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها