كتبت الروائية اللبنانية الراحلة، ليلى بعلبكي (1934-2023)، روايتها "أنا أحيا" وأصدرتها في بيروت منشورات مجلة شعر في العام 1958، أي بعد سنة من ولادتي في تلك القرية النائية في الغرب العراقي. أقرأها اليوم بعد خمس وستين سنة من إصدارها، حيث أقيم في قارة أخرى بعيداً من قريتي. وما دفعني لاستعادة روح هذه الرواية موت المؤلفة مغتربة عن مسقط الرأس، وفضولي في تتبع حياة هذه الكاتبة المتمرّدة التي تنتسب إلى عائلة من جنوب لبنان. كذلك لأن واحداً من شخصيات الرواية عراقي اسمه بهاء، وهو شيوعي جاء بيروت للدراسة في جامعتها، وارتبط مع الفتاة بقصة حب طريفة.
اللغة في رواية "أنا أحيا" كانت معاصرة، سلسة وحديثة، لا تحمل روحا إنشائية كما في كتابات تلك الحقبة. كانت تسمي الأشياء بأسمائها، متمردة على الأساليب المتعارف عليه، بينما يعكس نمطها فرادة الكاتبة في تكوين لغتها السردية، ورؤيتها للحياة عموما. وجاء سرد الرواية بضمير المتكلم على لسان الفتاة، وبتيار الشعور الذي يرصد كل شيء، وكل حركة. ويستنشق كل رائحة، ويحاكم كل حوار يقال أو يفكر به. وأنسنة الجمادات ضمن بيئة الحدث، من مبتكرات هذه الكتابة، فالكرسي يضحك، والمنفضة تمرح وترقص، والشعر يفكر بالعيون المحدقة. القهوة تغازل الحبيب، والفستان الأبيض يحلم بالعريس، وهكذا.
ونجحت بعلبكي في السيطرة على أحداث روايتها بهذه التقنية حتى النهاية، وهي براعة لافتة لكاتبة لم تكن قد بلغت الثلاثين بعد، وتنجز تجربة أولى في كتابة الرواية. ثورة فتاة على مجتمع يحكمه الدين، ربما بشكل غير مباشر، من خلال الشرائع المتوارثة للمحرم والمحلل، وخاصة ما له علاقة بدور المرأة وموقعها في العائلة، والهيمنة الذكورية، وقمع حرية النساء في التعبير عن رغائبهن والبحث عن طريقهن الخاص في التعامل مع ظواهر المجتمع وعقده، كالحب والزواج والعذرية والميراث والقول والنقد والاعتماد على الذات.
تقوم بعلبكي بتقشير الواقع الخادع بقصدية ووعي، وهي تبحث عن جوهر الأشياء، في البشر والظواهر الاجتماعية، والتعابير اللغوية التي اعتاد الناس تداولها حتى دون وعي بها أحيانا. فإذا بالمشاعر والأفكار والهواجس ترافق الحدث، وتتولّد منه معظم الأحيان، وهذا ما شكل رؤية متقدمة في فن كتابة الرواية العربية، والنسوية منها على وجه الخصوص. في حين تلعب الآيديولوجيا دوراً في تأطير العقل حول مقولات بعينها، خاصة الآيديولوجيا الشيوعية التي كان الطالب بهاء العراقي يروج لها، وينظر من خلالها إلى الأحداث التي تجري في المنطقة والعالم. وهنا توحي لنا الكاتبة بها إيحاء، كالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والمعركة بين الرأسمالية والشيوعية، وخروج مصر من العدوان الثلاثي عليها في عام 1956، وتيه البوصلة في البحث عن الهوية. كذلك الأمر مع الآيديولوجيا القومية وتركيزها على قضية الوحدة العربية.
تبحث عن ذاتها
وكانت بيروت مسرح الشخصيات المهزوزة أو الواثقة من نفسها، والأسر الغنية بتقاليدها الغربية الوافدة، والمؤسسات التي تفشت في كل زاوية وشارع، والقيم البرجوازية، ووصايا الأسر الفقيرة التي نساها الزمان في القرى النائية بين الجبال، والوديان، والسهول. فتاة تبحث عن ذاتها ومجتمعات تطبخ نفسها، سنة بعد سنة، وعقداً بعد آخر، بحساء التفاهة، والقدرية، والجهل، والعجز، والتخلف. وتتحدّث ليلى بعلبكي عن كل ذلك، بتلميح أو بتصريح، بتمهل أو بلفتات برقية من أفكار ومواقف ليلى التي اختفت عن الأنظار مدة خمسين سنة. إذ ماتت في لندن عن عمر ناهز 89 سنة وقد ولدت في جنوب لبنان سنة 1934. ويعتبر اختفاؤها عن التأليف والنشر، رغم ما حازته روايتها من شهرة، ثم محاكمتها بعد ذلك عن مجموعتها القصصية واتهامها بخدش الحياء العام في لبنان، حالة نادرة في محيطنا الثقافي العربي.
هل هو يأس من تغيير المجتمعات العربية التي ما زالت محكومة بالدين والآيديولوجيا؟ هل هو زهد بالشهرة، وهو نادراً ما يحصل في ثقافتنا منذ أبي حيان التوحيدي الذي أحرق كتبه في أواخر أيامه يأساً من أمة العرب والإسلام؟ هل للأمر علاقة بنضوب موهبة، بعدما قالت كل شيء في روايتين ومجموعتَي قصص، فانزوت مع زوجها لتعيش بعيداً من جعجعة الهموم العربية التي أكلت قوى النخب المثقفة، وعقولها، خلال قرن من الزمان، لتعود تلك المجتمعات كل مرة إلى نقطة الصفر؟ وهذا ما يمكن رؤيته في معظم المجتمعات العربية التي ارتدّت اليوم إلى الحجاب، وقمع حرية المرأة، وهيمنة الدين لوحده على الساحة.
وكأن ليلى بعلبكي، وغيرها من النساء في أكثر من بلد عربي، لم ترفع ذات يوم لواء التحرر للمرأة، وتقدّم على ثورتها احتجاجاً على الحجاب، وهيمنة الرجل المسنود بالنص الديني، وتخلف الشارع والسلطة السياسية. وذلك منظور اليوم في الشارع المصري، والعراقي، واللبناني في جنوبه وقراه وسهوله، والليبي المصطرع، والخليجي، وغيرها من بلدان العرب. ويلمس المرء الردة الحضارية الضارية إلى الماضي باليد، ويراها بالعين، ويسمعها بالأذن في كل ثانية، ودقيقة، وساعة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها