الخميس 2023/11/16

آخر تحديث: 13:02 (بيروت)

"غيتو غزة": ثلاثة أجيال فلسطينية نازحة.. وشارون متباهياً

الخميس 2023/11/16
increase حجم الخط decrease
تملك السينما قدرة استثنائية على الإخبار والتحريض وتغيير وجهات النظر والسرديات حول الموضوعات الحاكمة لحياتنا اليومية؛ من المفاهيم المحيطة بالهوية والدين والسياسة إلى الموضوعات التي تنطوي على تعقيدات العلاقات والتفاعلات البشرية. وهذا ما تفعله "مؤسسة الفيلم الفلسطيني" من خلال برنامجها الأخير "سرديات رغم التبرير"(*)، عبر سلسلة أفلام "تحتفي بجمال غزة وشعبها وكفاحها وبقائها"، بهدف "الوقوف في وجه شيطنة هذا المكان الجميل" ومجابهة الروايات الكاذبة ومقاومة المعلومات المضللة والمفاهيم الخاطئة المحيطة بالأراضي المحتلة عبر إبراز ثقافتها وتراثها الغني والاحتفاء بهما.

يضمّ البرنامج 12 فيلماً تقدّم نظرة معمّقة للحياة اليومية لسكان غزة، وتدعو المتفرّجين لاكتشاف الواقع المروّع للحياة في ظلّ الاحتلال. تغطّي الأفلام المدرجة في البرنامج مجموعة واسعة من المواضيع، بدءاً من الأفلام الوثائقية المثيرة للتفكير والمتعمّقة في الواقع الاجتماعي والسياسي في غزّة، إلى قصص الحبّ الممنوع حيث يمكن لإيماءات المودة تحدّي التقاليد السائدة.

ومن أبرز ما يتضمنه البرنامج، فيلم قصير نادر بعنوان "مشاهد من الاحتلال في غزة" (1973) للمخرج الفلسطيني مصطفى أبو علي، وهو أحد مؤسسي وحدة أفلام فلسطين، الذراع السينمائية الأولى للثورة الفلسطينية. تأسست وحدة الأفلام الفلسطينية في أواخر الستينيات بهدف إدراج فلسطين في الحوار العالمي المتمثل في النضال ضد الاستعمار. سلّطت الموجة الأولى من الأفلام التي أصدرتها "مؤسسة الفيلم الفلسطيني"، الضوء، على عناصر الحرمان والغضب الفلسطيني مع مقارنتها بالحركات الأخرى المناهضة للإمبريالية في ذلك الوقت بما في ذلك تلك الموجودة في كوبا وفيتنام وأنغولا.

"مشاهد من الاحتلال في غزة"، أحد أقدم الأفلام الفلسطينية عن الأراضي المحتلة في قطاع غزّة، وظهر بفضل قيام أبو علي بتحرير بعض المشاهد التي التقطها فريق إخباري فرنسي، مستخدماً تقنيات المونتاج التجريبية لإنتاج فيلم تحريضيّ، سينمائياً وسياسياً. حصل الفيلم على الجائزة الأولى لأفضل فيلم في مهرجان دمشق السينمائي العام 1973 وعُرض في مهرجانات عديدة، وهو الفيلم الوحيد الذي أنتجته "جماعة السينما الفلسطينية"، التي أصبحت تعرف بمؤسسة السينما الفلسطينية منذ العام 1974.

يبرز أيضاً، وثائقي "غيتو غزّة: بورتريه لعائلة فلسطينية"(1985) للمخرجين بي هولمكويست وجوان مانديل وبيير بيوركلوند، وهو من أوائل الافلام الوثائقية المنتجة في غزة، ويعتبر من الأفلام الكلاسيكية، ويضع عناوين الأخبار آنذاك في منظورٍ تاريخي. يعيدنا هذا الفيلم الوثائقي الأرشيفي إلى غزة الثمانينيات، مع بشائر وإرهاصات الانتفاضة الأولى. بحميمية وشاعرية لا تخلو من حزنٍ عميق، يُظهر لنا التغييرات الهائلة التي أحدثت اضطراباً في البيئة والمجتمع الغزّيين، بفعل سياسات الاحتلال الإسرائيلي.

ورغم كونه إنتاجاً غَربياً صرفاً، إذ شارك في صناعته ثلاثة مخرجين صحافيين (جوان مانديل (الولايات المتحدة)، بي هولمكويست وبيير بيوركلاند (السويد)، إلا إنه فلسطيني حتى النخاع. يركّز الفيلم على الحياة تحت الاحتلال الإسرائيلي في جباليا، أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين. حيث يولد طفل ويموت طفل، لندرك تأثير عقود من الحرب والنزوح في الحياة اليومية والطقوس العائلية. ونلتقي أيضاً بإسرائيليين مشاركين من مواقعهم في التراجيديا الفلسطينية: جنود في دورية عسكرية، ومستوطنون، ومهندسو الاحتلال العسكري، ومن بينهم آرييل شارون بنفسه.

في المركز، يختار صانعو الفيلم تسجيل ورصد الوقائع والحياة اليومية لعائلة أبو العدل، واحدة من مئات الأسر الفلسطينية التي اتخذت من مخيّم جباليا مقاماً بعد تهجيرهم في النكبة. حينها، كان أبو العدل شابّاً في العشرين من عمره، يقطن قرية دمرة (شمال شرقي مدينة غزة) مع عائلته، عندما وصل الجيش الإسرائيلي إلى القرية، وأجبر أهلها على ترك بيوتهم. ومنذ ذلك الحين، يعيش في المخيّم الذي اتسع بمرور السنوات وتراكم الجرائم الإسرائيلية وعمليات التهجير القسري. يتابع الفيلم العائلة المكونة من ثلاثة أجيال من اللاجئين اقتلعوا من وطنهم، ورغم عدم السماح لهم بالعودة مطلقاً، إلا أنهم استمروا في معاناة سياسات العقاب الجماعي من خلال حظر التجول وهدم المنازل والسجن والموت نتيجة للاحتلال.

Gaza Ghetto from Concord Media on Vimeo.


رغم القدم النسبي لتاريخ إنتاج الفيلم، إلا إنه عملٌ مُلحّ وراهن بامتياز. فعندما يسعى مشروع عسكري وسياسي يستمر عقوداً من الزمن، إلى محو وجود الفلسطينيين من التاريخ مع تهجيرهم قسراً من وطنهم، فإن فيلماً كهذا يغدو حيوياً ولازماً حتى لا يبقى أبطاله وناسه في طيّ النسيان أو بالأحرى حتى لا يضيعوا مرّتين. يستطيع جيش الاحتلال الإسرائيلي تجريف وذبح الأشجار القديمة، وانتهاك الاتفاقيات الدولية بهدم آلاف المنازل، وإجبار الفلسطينيين على العيش في مخيمات اللجوء، مستقوياً بأكاذيبه المعتادة عن الفلسطينيين الذين "يريدون أن يعيشوا هكذا"، فيما يشتدّ سعيه إلى قضم الأراضي وإقامة المستوطنات والإدّعاء بأنه لم يكن هناك في السابق (على أرض فلسطين) سوى أرض خالية بنوا عليها بسلام، لكن هذا الفيلم يثبت عكس ذلك، مثلما يثبت أبطاله/ناسه تمسّكهم بالبقاء على هذه الأرض، أرضهم.

في بعض المَشاهد يظهر أشخاص مثل بن إليعازر وآرييل شارون، ليتحدثوا بفخرٍ عن جرائمهم (مع تغليف الحديث بأجواء من البراءة والسلام تذكّرنا بما يحدث الآن وتكرار الكذب والتضليل المعتادين)، تصاحبها أو تليها لقطات من واقع الحياة الغزّاوية تحت وطأة الاحتلال تظهر حقيقة ما كانوا يتحدثون عنه... مَشاهد ولحظات هي دليل إدانة لآلة التضليل والقمع الإسرائيلية، تؤكّد من جديد على أن كلّ الأوقات مناسبة لممارسة الضغط على عالمٍ لا يريد سماع الحقيقة، وبيان أكاذيب الاحتلال، ورفع الصوت الفلسطيني عالياً.

(*) يعرض فيلم، عبر منصة المؤسسة، كل يوم أربعاء، الساعة الخامسة مساء بتوقيت القدس.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها