في المشهد الأول يأتي، الشاب بالكاميرا التي استعارها من صحافي بريطاني، فيحاول تسجيل لحظات والدته التي خاضت تجربة تمثيل واحدة بمشهد واحد وعاشت أحلام السينما ونجمات أغلفة المجلات الفنيّة. وقف يصورها في محاولة منه لتكبير هذه اللحظة العابرة من زمن مضى، حينما كانت دمشق في الثمانينيات والتسعينيات تضج بالأضواء والنجوم في لياليها ومهرجاناتها الفنية وفنادقها.
والمشهد الثاني يعود مع فتاة رأى فيها فتاة أحلامه، قبل أن تنكسر هذه النظرة فور دخوله الى منزله. والمشهد الثالث الذي يأتي فيه من الخارج بمديرة أعمال عصرية، ليحاول أن تكون هذه السيدة، هدية لوالدته في عيد ميلادها، علّها تحييها وتوقظ أحلامها وطموحاتها من جديد. والعودة الرابعة هي ما رآه في الشارع من وباء وجوع وناس تقتات على لحم بعضها البعض في أزقة المدينة.
سؤال المكان
الشاب الذي يراقب يومياً انهيار مدينته وفقدان أصدقائه، ويراقب داخل المنزل شيخوخة والدته وتلاشيها. هي اختصار للمشهديات الخمس وأسئلتها التي يختصرها الكاتب والمخرج زيني بقوله لـ"المدن": "المسرحية تطرح ثلاثة أسئلة، أولها السؤال العائلي، وهو أول صراع سياسي تعيشه داخل المكان الذي نشأت فيه، قبل أن تخرج لتواجه ما ينتظرك في الشارع. والسؤال الثاني، عن فكرة الشيخوخة والتقاعد في مدينة متقاعدة، حتى أمسى المتقاعدون، متقاعدين من الحياة. والسؤال الثالث، سؤال الذاكرة التي يحاول الشاب وأمه الحفاظ عليها فيما الأحداث في الخارج تسبقهما وتتركهما في وحدتهما وعزلتهما".
أسئلة داخل مشاهد متقطعة بكسر إيهام، وتغيير ملابس وديكور أمام الجمهور، ولينطلق كل مشهد مع تعتيم الضوء وإعادة إشعاله. المنزل الذي يعيش على لملمة أجزاء من الذاكرة وفقدانها من جديد، عبر ذاكرة الأم التي عاشت في دمشق الثمانينيات، في مقابل أجزاء الصور التي يحملها الابن معه من الخارج، حيث المدينة تفقد ملامحها وتزداد غربة ووحشة.
يقول كفاح زيني: "عملت مع الممثلين على أن يعيشوا تلك اللحظات التاريخية في كل مشهد، رغم اختلاف اساليبهم الأدائية. فالممثل (إيهاب شعبان) يعتمد على الواقعي النفسي، والأم (رانيا مروة) تعتمد بأدائها على التعبيرية والمغناة، والفتاة (جوان زيبق) تعتمد بشكل أساسي في أدائها على ملامح وجهها. تركتُ الممثلين على سجيتهم وعملت على تداخل تعابيرهم وأساليبهم. حتى لهجاتهم اللبنانية – السورية المتداخلة، لم أتوقف عندها، بل رأيت فيها جزءاً من تشوهات اللهجة والثقافة التي نعيشها في السنوات الأخيرة. ما كان يعنيني هو فهم اللحظة التاريخية وما سيليها من لحظات في المشاهد اللاحقة. أربعة مشاهد عودة، ومشهد أخير هو اعلان الرحيل، بعد انهيار كل شيء وإصابة الأمّ بشلل النطق وما تبقى من حركة لشيخوخة جسدها".
ينتهي عرض "بردى" بمونولوغ للابن، في زاوية المسرح بعد قرار الرحيل، هو عصارة جيل يعيش الفقد والغربة عن عائلته ومدينته التي توقف الزمن بعد انهيارها. وما عمل "بردى" سوى تسجيل للحظات حميمة في وداع أمهاتنا ومدننا التي نعيش على ذكراها.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها