"إنّ الذين يعيدون إنتاج هويّتهم، يحتاجون إلى أعداء. وهذا غالباً ما يخلق ذاكرةً ذات هويّات إقصائيّة (…) ثمّة خلافات ذات ماضٍ دينيّ. غير أنّ هذا المحتوى الدينيّ هو اليوم غير ذي أهمّيّة. فأنت لا تحتاج إلى أن تكون مؤمناً بدينك كي تكره دين الآخرين". بجمل آسرة من هذا النوع ينفذ طارق متري إلى عقول مستمعيه، وإلى قلوب كُثُر منهم، ساعياً إلى عرض أطروحته المركزيّة والتبسّط فيها: ليس الحقد المتوارث عن السلف هو ما يولّد الحروب، بل إنّ الحروب هي مسبّب الحقد الذي يخيّل لنا أنّه متوارث.
الدعوة هي من مؤسّسة "من أجل الشرق" (Pro Oriente) النمساويّة، العاملة في فيينا بشكل خاص مع امتدادات لها في غراتس (Graz) وزالتسبورغ (Salzburg) ولينز (Linz). والإطار هو مؤتمر علميّ بعنوان "شفاء الذاكرة المجروحة" (٩-١١ تشرين الثاني/نوفمبر) شارك فيه باحثات وباحثون من الولايات المتّحدة وأوروبا والعالم العربيّ. أمّا المكان، فهو أكاديميّة فيينا لإعداد الدبلوماسيّين. وقد شاء متري أن يسبغ على محاضرته عنواناً يومئ إلى موقعها المنهجيّ بين السياسة والتاريخ وعلم الاجتماع: "الصراعات والذاكرة وإعادة إنتاج الحقد".
إشكاليّة الذاكرة هي في صلب محاضرة متري، رئيس جامعة القدّيس جاورجيوس في بيروت حاليّاً، والآتي إلى السياسة والدبلوماسيّة من علم الاجتماع الدينيّ والعلاقات الإسلاميّة المسيحيّة.. ومن الثقافة الواسعة. وعند متري أنّ هذه الذاكرة كثيراً ما تتعرّض للانتهاك في أزمنة الصراع، إذ يجري إعادة إنتاجها، أو تنشيطها، في اتّجاه دون آخر طمعاً في إذكاء النزاعات، بحيث تتحوّل إلى وسيلة للانكفاء والتقوقع وتعميق المسافة بين الأفراد والجماعات.
على هذا المستوى، يميّز متري بين الذاكرة والتقليدويّة، أي الاحتماء بالماضي والركون إليه. فالتعامل الاستغلاليّ مع الذاكرة، ولا سيّما من طريق ما تروّج له الميديا من مفردات ومفاهيم ومضامين، ليس معنيّاً بالماضي، بل بتشكيل الحاضر والمستقبل في سبيل خدمة أجندات سياسيّة. وبما أنّ الطغاة هم أكثر المهتمّين بالسيطرة على الذاكرة الجماعيّة، فإنّ الحدّ من سوء استخدام الذاكرة هو، في رأي متري، مسؤوليّة سياسيّة بالدرجة الأولى.
حين وجّه المنظّمون الدعوة إلى الأستاذ الجامعيّ والسياسيّ السابق، ما كانوا يتوقّعون أن يخيّم على أعمال مؤتمرهم شبحُ الحرب التي تشنّها إسرائيل على غزّة والضفّة الغربيّة جرّاء عمليّة "طوفان الأقصى". لم تكن فلسطين هي موضوع المحاضرة. لكن كان من الطبيعيّ أن ترخي الأيّام الفلسطينيّة بظلالها على جلسات المؤتمرين وعلى محاضرة متري. ولا غرو، فالنموذج الفلسطينيّ مثال فاضح على تعامل مع الذاكرة يفتقر إلى التوازن؛ إذ فيما يعتبر كُثُر من يهود إسرائيل أنّ ما حصل يوم السابع من أكتوبر يستعيد المذبحة النازيّة، أو ما شهدته أوروبا القرن التاسع عشر من كراهية وقمع لأسلافهم، فإنّ الحكاية الفلسطينيّة كثيراً ما تُختزل بالعمليّة التي قامت بها حركة "حماس" وكأنّ شيئاً لم يحدث منذ نكبة العام ١٩٤٨ إلى اليوم. ويرى متري أنّ هذا تعبير صارخ عن كيفيّة التعامل مع الذاكرة بشكل انتقائيّ وصولاً إلى إخراج مضمون الذاكرة من سياقاته التاريخيّة. ويرى أنّنا هنا أمام مقاربة تغلّب الحديث عن تمظهرات العنف الحالية (anatomy) عوضاً من تتبّع أسبابه وقصّة نشوئه (genealogy).
بعد المحاضرة، كان ثمّة مجال للتلاقي وتبادل الأفكار، وللرجاء أن تشهد الأيّام المقبلة انقشاعاً لموجة العنف التي تغلّف فلسطين.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها