الأربعاء 2023/11/01

آخر تحديث: 12:37 (بيروت)

طه حسين الذي جذبته لعبة السياسة.. ولم تجذبه

الأربعاء 2023/11/01
increase حجم الخط decrease
خمسون عاماً مرت علي رحيل طه حسين، أكثر الشخصيات التي عرفتها الحياة العامة في مصر والعالم العربي إثارة للجدل وقدرة على إلقاء حجر في الماء الراكد، فإذا هي فورة في كثير من الأحيان، لم تعرف الهدوء حتى اليوم، رغم مرور نصف قرن على رحيل مفجرها في 28 تشرين الأول/أكتوبر 1973، من أول تمرده على الأفكار الجامدة التي تتخفى خلف عمائم رجالات الأزهر التي أدت إلى حرمانه من الحصول على العالمية (شهادة إتمام الدراسة الأزهرية)، مروراً بمعركة حجاب المرأة وسفورها، وضرورة تحرر الشرق من الإرث العثماني واللحاق بركب الحضارة الغربية إن كانت هناك رغبة عربية في البقاء وسط هذا العالم سريع التغير، وصولاً إلى الحجر الأكبر الذي ألقاه بين ضفتي كتابه الأهم "في الشعر الجاهلي" العام 1926، وهو الكتاب الذي وصل النقاش فيه إلى قبة البرلمان المصري وكاد يلقي بصاحبه خلف جدران السجن في واحدة من أكثر القضايا الفكرية التي شغلت الرأي العام العربي على مدى ما يقرب من مئة عام، رغم أن طه حسين نفسه عاد بعد سنوات وانحنى للعاصفة وأعاد طرح كتابه منقحاً ومخففاً من نقاط الخلاف التي أثارت حفيظة الكثيرين في حينه.

ورغم آلاف الصفحات التي سُوّدت، وأطنان الحبر التي أريقت في دراسة كل ما أتى به عميد الأدب العربي، فإن جانباً مهماً من حياته لم يلق الاهتمام الذي يستحقه رغم كل التقلبات التي شهدها هذا الجانب المهم، والتي كان المحرك الأول لها توجهه الفكري، الشيء الوحيد الذي لم يبدله أو يحد عنه طيلة حياته. هذا الجانب يتمثل في علاقة صاحب كتاب "الأيام" بالسياسة، أو بالأحرى علاقته بالأحزاب السياسية التي عرفتها مصر في زمانه. والملفت أن طه حسين، على كثرة ما كتب عن نفسه، خصوصاً في كتابه الأكثر ذيوعاً "الأيام"، لم يعمد إلى الحديث عن توجهاته السياسية أو مواقفه من الأحداث التي شهدتها مصر في تلك الأثناء. وربما كان هذا مرده – في ظني – أن الرجل لم يكن مهووساً بالسياسة بقدر اهتمامه بالفكر والثقافة، وأن توجهاته الفكرية هي التي قادته إلى معترك السياسة أو تلامسه مع الأحزاب السياسية القائمة في مصر، حتى مع وصوله إلى منصب وزير المعارف (التعليم) في حكومة حزب الوفد العام 1950.

وعلى أية حال، فإن طه حسين لم يبدأ حياته السياسية وفدياً، بل إنه ناصب الحزب العداء في كثير من سني حياته، لأسباب فكرية أيضاً. ويمكن تلمس بداية هذه العلاقة في العام 1908، حينما كان دون العشرين من عمره (مواليد محافظة المنيا في صعيد مصر 1889)، حينما انضم إلى "حزب الأمة"، محبة في قطب الحزب الأكبر أستاذه وأستاذ الجيل، أحمد لطفي السيد، مؤسس صحيفة "الجريدة" الناطقة بلسان الحزب، وهي الصحيفة التي أفسحت صفحاتها لطه حسين كي يخوض معاركه الفكرية في ذلك الوقت بتشجيع مطلق من لطفي السيد الذي كان معجباً أيما إعجاب بثورة طه حسين على عمائم الأزهر ومشايخه، وهو الذي شجعه على دخول الجامعة المصرية التي افتتحت أبوابها في العام نفسه 1908...

واللافت أن حزب الأمة، كان حزباً إقطاعياً، يقوده كبار الملاك الزراعيين ذوو المصالح مع القصر، بل وربما مع المحتل الانكليزي نفسه. ولم تكن أسرة طه حسين تنتمي إلى هذه الفئة، وإنما كانت أسرة متوسطة استطاعت أن توفّر بالكاد لأولادها، قدراً طيباً من التعليم الأزهري. ومن هنا، كان من المتوقع أن ينضم الفتى الشاب إلى الحزب الوطني الذي يقوده الزعيم الوطني مصطفى كامل، وأن يوجه قلمه للكتابة في صحيفة "اللواء"، لسان حال الحزب الوطني. لكن حسابات الفتى المتمرّد كان لها شأن آخر، فقد كان مصطفى كامل مناصراً للخديوي عباس حلمي الثاني، ومن ثمّ للخلافة العثمانية على خلفية الولاء الديني، فيما كان طه حسين منادياً، منذ تفتح وعيه الفكري، بالدولة المدنية حتى لو لم يسمّها هكذا. لم يكن ميالاً للتبعية العثمانية، وإنما محبذاً للحاق بركب الحضارة الغربية، شأنه في ذلك شأن أحمد لطفي السيد، ولهذا السبب فقط انضم طه حسين إلى حزب الأمة كي يجد المنبر الذي يعبّر منه عن آرائه الفكرية، ليس أكثر، من دون أن يؤمن بمبادئ الحزب المحسوب على التيار الرجعي. بل إنه خاض في ذلك الوقت، على صفحات الجريدة، معركته المهمة ضد الشيخ عبد العزيز جاويش، أحد أقطاب الحزب الوطني، والمعروفة باسم معركة "الحجاب والسفور". إذ كان ابن العشرين من أشد المناصرين للتيار الذي أوجده قاسم أمين، والداعي إلى تحرير المرأة، كأحد مظاهر التحضر على الطريقة الغربية. خلافاً للشيخ جاويش الذي شنّ عبر صحيفة "اللواء" هجوماً ضارياً على كل أنصار سفور المرأة، ما يعني أن حزب الأمة وصحيفته لم يكونا سوى الإطار الذي أحاط بأفكار طه حسين، بدليل أن أياً من كتاباته في تلك الفترة لم تتبنّ توجهات الحزب السياسية أو الاجتماعية.


(أحمد لطفي السيد صاحب التأثير الأكبر في طه حسين)

وسريعاً، تراجع وجود حزب الأمة، إثر مغادرة لورد كرومر مصر، إذ كان الداعم الأكبر للحزب عقب مذبحة دنشواي. ومنذ العام 1909، تقلّب طه حسين على الكتابة في أكثر من صحيفة، بما فيها صحيفة "اللواء" لسان حال الحزب الوطني، من دون الانتساب إليه، وبعد حصوله على الدكتوراه من الجامعة المصرية وسفره إلى فرنسا العام 1914، ثم اقترانه بزوجته الفرنسية "سوزان"، عاد طه حسين من أوروبا مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وقد أصبح أكثر انبهاراً بالحضارة الغربية ومناصراً لها، فيما كانت فيه شعبية حزب الوفد آخذة في التحقق والنمو على أثر قيام ثورة 1919 ونفي زعيمها سعد زغلول. ومع ذلك، لم يفكر طه حسين في اللجوء إلى حزب الغالبية الشعبية ذي الطبيعة المحافظة، إذ لم يكن مستعداً لإرضاء هذه الشعبية المحافظة بفطرتها على حساب قناعاته الفكرية، ومن ثم قرر الانضمام إلى حزب الأحرار الدستوريين، انجذاباً أيضاً إلى أستاذه أحمد لطفي السيد ومن تبقى من مثقفي حزب الأمة القديم، ومعهم بطبيعة الحال أحد رموز التنوير في ذلك الوقت، محمد حسين هيكل. واتخذ طه حسين من صحيفة "السياسة"، التابعة لحزب الأحرار الدستوريين، منبراً للتعبير عن آرائه التحررية، التي كانت كثيراً ما تصطدم بآراء حزب الوفد. في تلك الأثناء، أصدر طه حسين كتابه المثير للجدل "في الشعر الجاهلي"(1926 الذي إهداه إلى عبد الخالق ثروت، رئيس الوزراء في ذلك الوقت، والمتعاطف مع حزب الأحرار الدستوريين والمعادي لحزب الوفد، وهو الإهداء الذي اختفى من طبعات الكتاب اللاحقة... إلى أن جاء العام 1932 الذي شهد الانقلاب السياسي الأكبر في حياة طه حسين. 


(مع سوزان في الكبر)

كان الرجل في هذه السنة قد أصبح عميداً لكلية الآداب، فيما كان يرأس الوزارة إسماعيل صدقي الذي انقلب على دستور 1923 وزيف الانتخابات التي قادت حزبه، حزب الشعب، إلى الحكم، وأصدر صحيفة تعبّر عنه، تحمل الاسم نفسه. وحدث أن طلب رئيس الوزراء من طه حسين تولي رئاسة صحيفة "الشعب"، لكنه رفض، تماشياً مع الإرادة الوطنية التي وقفت موقفاً عنيفاً من كل ارتدادات إسماعيل صدقي، فما كان من رئيس الوزراء إلا أن أوعز لأعضاء البرلمان بإثارة قضية كتاب "في الشعر الجاهلي" من جديد، متهمين مؤلفه بالإلحاد، فقرر صدقي على أثر ذلك عزل طه حسين من عمادة كلية الآداب وإلحاقه بوظيفة مفتش للغة العربية في نظارة المعارف العمومية (التعليم).

وفور الإعلان عن نبأ الإقالة، أضرب الطلاب الوفديين وقاموا بمظاهرات حاشدة داخل وخارج الجامعة، ثم ذهبوا إلى منزل طه حسين ليحملوه على الأعناق وهم يهتفون بالحرية الفكرية التي يتبناها العميد المخلوع. ومنذ ذلك الحين، أعاد طه حسين حساباته في ما يتعلق بالقاعدة الجماهيرية، وأدرك أن الجماهير من الممكن أن تحميه، فأصبح وفدياً صميماً، حتى وإن حاد في بعض الأوقات عن الحزب الأصلي متجهاً إلى السعديين مثلاً، لكنه كان يعود سريعاً إلى أحضان الحزب ورئيسه مصطفى النحاس، الذي اختاره في العام 1950 وزيراً للمعارف كي يطلق دعوته التي لطالما نادى بها، وبأن يكون التعليم كالماء والهواء. غير أنه لم يسلم في تلك الفترة من بعض المنغصات الحزبية التي كان أشدها قسوة حينما قامت ضده المظاهرات تهتف "يسقط الوزير الأعمى"...

ويبدو أن تلك التجربة القصيرة في كرسي الوزارة، علمته الكثير. فقد رفض، بعد قيام ثورة يوليو 1952، كل محاولات رجال الثورة جذبه للانخراط من جديد في العمل السياسي، مفضلاً الاكتفاء بالجانب الفكري والأدبي الذي ضمن له هذه المكانة الفريدة في عالم الثقافة العربية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها